ياقوت الحموي .. عاشق الكتابة المعجمية

  • 8/22/2015
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

إعداد: محمد إسماعيل زاهر هذا كتاب في أسماء البلدان، والجبال، والأودية، والقيعان، والقرى، والمحال، والأوطان، والبحار، والأنهار، والغدران، والأصنام، والأنداد، والأوثان. لم أقصد بتأليفه، وأصمد نفسي لتصنيفه، لهواً ولا لعباً، ولا رغبة حثتني إليه ولا رهباً، ولا حنيناً استفزني إلى وطن، ولا طرباً حفزني إلى ذي ود وسكن. ولكن رأيت التصدي له واجباً، والانتداب له مع القدرة عليه فرضاً لازباً، وفقني عليه، الكتاب، العزيز الكريم، وهداني إليه النبأ العظيم، هو كلام عالم مسلم آخر سعى إلى الإحاطة بالجغرافيا من جوانبها كافة، بل تعددت اهتماماته، ووصلت إلى الشعر، هو ياقوت الحموي، والذي لم يقف به خياله عند محاولة وصف الأرض بكل تفاصيلها. يمتد الخيال لمعرفة موقع الأرض في الكون، فبعد أن يبدأ الحموي كتابه الأشهر معجم البلدان، ويورد آراء القدماء حول موقع الأرض، وطبيعتها وشكلها ومساحتها..إلخ. يقول: وأصلح ما رأيت في ذلك وأسده في رأيي، ما حكاه محمد بن أحمد الخوارزمي، قال: الأرض في وسط السماء، والوسط هو السفل بالحقيقة، والأرض مدورة بالكلية، مضرسة بالجزئية من جهة الجبال البارزة والوهدات الغائرة، ولا يخرجها ذلك من الكرية، إذا وقع الحس منها على الجملة، لأن مقادير الجبال، وإن شمخت، صغيرة بالقياس إلى كل الأرض، ألا ترى أن الكرة التي قطرها ذراع أو ذراعان إذا نتأ منها كالجاورسات وغار فيها أمثالها، لم يمنع ذلك من إجراء أحكام المدور عليها بالتقريب؟ ولولا هذا التضريس، لأحاط بها الماء من جميع الجوانب وغمرها حتى لم يكن يظهر منها شيء، فإن الماء، وإن شارك الأرض في الثقل وفي الهوي نحو السفل، فإن بينهما في ذلك تفاضلاً يخف به الماء إضافة إلى الأرض، ولهذا ترسب الأرض في الماء وتنزل الكدورة إلى القرار، فأمّا الماء فإنه لا يغوص في نفس الأرض، بل يسوخ فيما تخلخل منها، واختلط بالهواء، والماء إذا اعتمد على الهواء المائي للتخلخل نزل فيها وخرج الهواء منها، كما ينزل القطر من السحاب فيه، ولما برز من سطح الأرض ما برز، جاز الماء إلى الأعماق، فصار بحاراً، وصار مجموع الماء والأرض كرة واحدة يحيط بها الهواء من جميع جهاتها. بدايات مبشرة ولد شهاب الدين بن عبد الله الحموي في عام 574 ه / 1178م في بلاد الروم أو اليونان، تعرض للأسر، ومن ثم البيع في بغداد وهو صغير، واعتنق الإسلام وسمى نفسه عبد الرحمن، واعتبره سيده التاجر أبونصر البغدادي الحموي بمثابه ابنه، فأخذه معه في الكثير من الرحلات إلى الشام وأرجاء الجزيرة العربية ومصر، وحفظ القرآن الكريم، وفي شبابه استأمنه البغدادي على تجارته فأصبح ياقوت يسافر بمفرده، ويسجل انطباعاته الخاصة عن الأماكن والبلدان والمساجد والآثار التي يزورها، بكل ما تحتويه من حكايات وأساطير لا نهاية لها، وبعد ذلك ترك ياقوت تجارة البغدادي، وفتح دكاناً متواضعاً في حي الكرخ في بغداد ينسخ فيه الكتب لمن يقصده من طلاب العلم، وكان في الليل يتفرغ للقراءة، ودرس الحموي اللغة على يد ابن يعيش النحوي، والأدب على العبكري، وله العديد من الأشعار، يقول: إن غاض دمعك والأحباب قد بانوا فكل ما تدعي زور وبهتان وكيف تأنس أو تنسى خيالهم وقد خلى منهم ربع وأوطان لا أوحش الله من قوم نأوا فنأى عن النواظر أقمار وأغصان في عمر الخامسة والعشرين عاود ياقوت الحنين إلى الأسفار من جديد، فزار فارس ونيسابور ومدن خراسان: هراة وسرخس ومرو، وفي حلب وجد ياقوت الكثير من اهتمام ورعاية وإليها جمال الدين القفطي، الذي رحب بياقوت، وجعل له راتباً من بيت المال، فقضى هناك خمسة أعوام أنجز فيها معجم البلدان، ولم يكن يبلغ الخامسة والأربعين آنذاك، واللافت أنه ظل يطور في كتابه من خلال رحلاته المتعددة الأخرى حتى وفاته في عام 622 ه/ 1225م. يتبع الحموي في معجم البلدان الرصد الألفبائي لكل المكونات التي حلم بتتبعها، وبعد أن يفصل في شكل الأرض ومساحتها، يتحدث عن الأقاليم السبعة: اختلف قوم في هذه الأقاليم السبعة: في شمالي الأرض وجنوبيها، أم في الشمال دون الجنوب، فذهب هرمس إلى أن في الجنوب سبعة أقاليم كما في الشمال. قالوا وهذا لا يعول عليه لعدم البرهان، وذهب الأكثرون إلى أن الأقاليم السبعة في الشمال دون الجنوب، لكثرة العمارة في الشمال وقلتها في الجنوب، ولذلك قسموها في الشمال دون الجنوب. وأما اشتقاق الأقاليم فذهبوا إلى أنها كلمة عربية، واحدها إقليم، وجمعها أقاليم، مثل إخريط وأخاريط، وهو نبت، فكأنه إنمّا سُمي إقليماً، لأنه مقلوم من الأرض التي تتاخمه، أي مقطوع، والقلم في أصل اللغة القطع، ومنه قلمت ظفري، وبه سُمي القلم لأنه مقلوم، أي مقطوع مرة بعد مرة، وكلما قطعت شيئاً بعد شيء فقد قلمته. الجغرافي يمتزج هنا باللغوي، وهو ما نلاحظه بتخصيصه فصلاً في المقدمة للمصطلحات التي تتردد في ثنايا الكتاب، ثم يختلط بالفقهي، حيث نجد أنفسنا نطالع فصلاً عن أقوال الفقهاء في ما يتعلق بالفيء والغنيمة، ثم يعود إلى الواقعي والعلمي، ولا يخلو السرد أيضاً من الخيالي والحلمي، كما في وصفه لبلاد البلغار، ويمكننا هنا تلمس معرفة الحموي برسالة أحمد بن فضلان، ينقل عن هذا الأخير عن بلاد البلغار: رأيت الحيات عندهم كثيرة حتى أن الغصن من الشجر ليلتف عليه عشر منها وأكثر، ولا يقتلونها ولا تؤذيهم، ولهم تفاح أخضر شديد الحموضة جداً، تأكله الجواري فيسمن، وليس في بلدهم أكثر من شجر البندق، ورأيت منه غياضاً تكون أربعين فرسخاً في مثلها، ورأيت لهم شجراً لا أدري ما هو، مفرط الطول وساقه أجرد من الورق ورؤوسه كرؤوس النخل، له خوص دقاق إلّا أنه مجتمع، يعمدون إلى موضع من ساق هذه الشجرة، يعرفونه فيثقبونه ويجعلون تحته إناء يجري إليه من ذلك الثقب ماء أطيب من العسل، وإن أكثر الإنسان من شربه أسكره، كما تسكر الخمر، وأكثر أكلهم الجاورس ولحم الخيل، على أن الحنطة والشعير كثير في بلادهم، ويغلف الكتاب بأسلوب أدبي لافت ولمحات ممتعة عن أدب الصعاليك، أدب الأندلس، أدب الخوارج، أدب الشيعة والشعوبية، أدب النساء. الشغف بالعلوم كتب الحموي الكثير من المؤلفات الأخرى لعل أبرزها: معجم الأدباء والمقتضب في النسب، وأنساب العرب وأخبار المتنبي، قدم الناقد الكبير الراحل إحسان عباس لنسخة حققها من كتاب معجم الأدباء في عام 1992 قائلاً: ليس هذا موطن الحديث التفصيلي عن ياقوت ومعجم الأدباء؛ ولكن لابد في هذه الكلمة الموجزة من تبيان أمور أساسية: أولها أن أهمية هذا الكتاب كانت لا تفتأ تتمثل لعيني في دور مبكر، وكنت أراه حرياً بالعناية والتقدم، على كل ما قمت به من قبل في ميدان التحقيق، فهو أصل كبير، ومصدر لا غنى عنه، أفاد منه أكثر من وجه همته بعد ياقوت نحو التأليف في التراجم، فهو جدير بالتحقيق والتدقيق وتسهيل الحصول على ما يحتاجه الباحثون من معلومات فيه. أما الحموي نفسه فيكشف عن عشقه للأدب بقوله: مازلت منذ غذيت بغرام الأدب، وألهمت حب العلم والطلب، مشغوفاً بأخبار العلماء، متطلعاً إلى أنباء الأدباء، أسائل عن أحوالهم، وأبحث عن نكت أقوالهم بحث المغرم الصب، والمحب عن الحب، وأطوف على مصنف فيهم يشفي الغليل، ويداوي لوعة العليل، فما وجدت في ذلك تصنيفاً شافياً، ولا تأليفاً كافياً، ومن هنا تأتي أهمية الكتاب الموسوعي عن الأدباء حيث يتتبع سير الأدباء ألفبائياً حتى عصره، البعض منهم يفصل في حياته، والبعض يقتصر رصده له على عدة سطور قليلة، ونجد أنفسنا أمام المئات من الأدباء العرب والمسلمين، فضلاً عما يتطلبه ذلك من أبحاث تقرأ ما بين الكلمات وتحلل الدلالات، لتخرج لنا بصورة مازلنا نفتقدها عن تراثنا الأدبي: اتجاهاته ورموزه وقضاياه، وما يقع خلف ذلك من قوى اجتماعية، وحياة فكرية ثرية تنتظر من يعيد التأريخ لها بموضوعية وشفافية.

مشاركة :