لقد حثّنا ديننا الإسلامي العظيم على التحلّي بالأخلاق الكريمة، ومن أسمى تلك الأخلاق وأفضلها الاحسان إلى الناس عموماً، والاحسان إلى الخادم والمملوك على وجه الخصوص، وقد دعا النبي الكريم ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ أصحاب الأعمال إلى معاملة الخدم والمماليك معاملة كريمة، وإلى الشفقة عليهم، والاحسان إليهم وعدم تكليفهم ما لا يطيقون من الأعمال، بل ارتفع النبي ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ بدرجة العامل والخادم إلى درجة الأخ، وهذا ما لم يُسْبَق في حضارة من الحضارات، أو في أمة من الأمم، فقال (صلى الله عليه وسلم): «إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يديه فليطعمه ممّا يأكل، وليلبسه ممّا يلبس، ولا تكلّفوهم ما يغلبهم، فإن كلّفتموهم ما يغلبهم فأعينوهم» (متفق عليه). وهذا ما حدث بالفعل في هذه القصة الواقعية من كتاب فضيلة الشيخ عبدالله النوري – رحمه الله – «حكايات من الكويت» (ص 81 ــــ 83)، والتي يرويها الشيخ عبدالله النوري – رحمه الله – نقلاً عن السيد أحمد بن يعقوب المحيميد – رحمه الله – والتي تتجسّد فيها أسمى معاني الوفاء وحفظ العهد، وفيها أن الشيخ عبداللطيف العبد الرزاق كان من تجار اللؤلؤ البارزين، وكان قد اختار الهند محلاً لإقامته وتجارته، يبيع ويشتري، أو يبيع بالواسطة، فيأخذ على ما يبيعه والسعي المعتاد، ولأمانته وتواضعه وصدقه وعفته، اختاره مواطنوه الكويتيون وفضلوه على كثير ممن يبيعون أو يبتاعون بالسعي، وكان هذا الرجل مشهوراً في وفائه لخدمة بني جنسه من العرب وبني وطنه من الكويتيين. ولكن هذا الوفاء بلغ غير العرب والكويتيين، فقد عرف الناس في متجر الشيخ عبد اللطيف هندياً، يدعى هيرا، كان يعمل دلالاً لبيع اللؤلؤ، فيأخذ الواسطة شيئاً من المال بنسبة مئوية، فرضها العرف له ولأمثاله، واصطلح عليها أهل الفن وصارت شرعة بين تجار اللؤلؤ يتبعونها في بيعهم وابتياعهم. وقد خدم هيرا في متجر الشيخ عبداللطيف العبد الرزاق سنين طويلة، كان فيها موضع ثقة المتعاملين كلهم، لم يعرف عنه كذب، ولا خان يوماً أمانته، وجاء أجل هيرا وانتقل إلى حيث ينتقل الناس بعد الحياة الدنيا الفانية، فإن من عاش مات، وكل نفس لا بد أن تصل إلى النهاية، وأقبل الدلالون يعرضون أنفسهم وخدماتهم على الشيخ عبداللطيف، كل يريد أن يخدمه حتى يحل محل هيرا، ولكن الشيخ عبداللطيف اشترط واختار واحداً وعرض عليه الشرط، وهو أن يكون أبناء هيرا القاصرون شركاء له في الكسب بلا عمل حتى يبلغ أصغرهم رشده. ورأى الدلال الجديد أحقية من حيث منطقيته وإنسانيته هذا الشرط، ورأى فيه وفاءً من السيد لخادمه وفكر فيه، ثم رضي وعمل مع صاحب المحل، وظل مدة يعمل ويربح ويفيد غيره وبلغ أبناء هيرا الثلاثة سن الرشد وهم يعيشون في كنف الشيخ عبداللطيف ينفق عليهم من سعته، ولما بلغ أصغرهم سن الرشد، أوقف الشيخ عبداللطيف الشركة، وقطعها بينهم وبين الدلال الذي خلف أباهم، وحاسبهم فكان نصيبهم أربعين ألف روبية. وشعر أولاد هيرا بالإحسان الذي أسداه إليهم الشيخ عبداللطيف، والإحسان يستعيد المحسن إليه إن كان كريماً، ولكن الشيخ عبداللطيف قال لهم: الفضل ليس لي ولكنه لأبيكم، فقد كان أميناً صادقاً نشطاً، أفادني واستفاد ووجب عليّ أن أفي له بالإحسان إلى أولاده، وأن أُشعر هؤلاء الأولاد بما كان عليه أبوهم فلعلهم يتحلون بأخلاق أبيهم، ويتصفون بصفاته. وصدق أولاد هيرا في خدمة سيدهم ومحبته، وتحقّق فيهم قول الشاعر: أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فلطالما استعبد الإنسان إحسان د. عبدالمحسن الجارالله الخرافي ajalkharafy@gmail.comwww.ajkharafi.com
مشاركة :