عبد الإله بلقزيز بدأ الإصلاح، في الوعي العربيّ الحديث، فكرةً ثم ما فتئ أن تحوّل إلى مشروعٍ فكريّ ( إديولوجي) كامل. بدأ فكرةً تولّدت، في وعي النّخب الثقافيّة، من معاينة المقدار الهائل من وقائع التحوُّل الذي طرأ على العالم المحيط - ومنه عالم الإسلام - نتيجة الصعود الزاحف، والظافر، للمدنيّة الأوروبيّة الحديثة غِبّ اصطدام مجتمعات العرب والمسلمين بها، منذ بدايات التمدّد الاستعماريّ الإنجليزيّ في الهند وحملة بونابارت على مصر في نهايات القرن الثامن عشر. وكما كان على الوعي، المشدوه بفتوحات المدنيّة الأوروبية تلك، أن يستنفر انتباهَه إلى هذا العالم الجديد من طريق الإدراك المقارِن للفارق بين أَلَقِ المدنيّة الحديثة واتضاع أحوال البلاد العربيّة والإسلاميّة، كان عليه أن ينتبه - في الوقتِ عينِه - إلى فجوةٍ رهيبةٍ، رديفٍ للفجوة (بين أوروبا وعالَم الإسلام)، هي الفجوةُ بين ماضٍ (عربي إسلامي) يبدو ذهبيّاً ومرجعيّاً، وحاضِرٍ هو من البؤس والانحطاط في غاية! ولَكَم كان قاسياً وشقيّاً ذلك الشعورُ بالتخلّف المزدوج تجاه الماضي القوميّ والحاضر الكونيّ معاً. يمكنُ لدارس تراث الإصلاحيّة الإسلاميّة، الحديثة والمعاصرة، أن يَلْحظ علاماتٍ مؤكَّدة لذلك النجاح الذي أحرزتْه في مجال استيعابِ صدمة الزحف الأوروبيّ والاصطدام بمدنيّته، وتحويلها من انكسارٍ إلى فرصةٍ قابلةٍ للاستثمار. لم تُلاقِ حدثَ الزحف ذاك، وما حَمَلَهُ في جوفه من قيمٍ وأفكار ومؤسسات جديدة، بردّةِ فعلٍ انكفائيّة دفاعيّة على الرغم من هول نتائجه التي منها إبطال مفعول الكثير من مؤسسات وقيم الماضي الموروثة؛ وإنما قابَلَتْهُ بإرادة التفاعل الإيجابيّ: تأخذ منه ما تراه مناسباً أو يوفّر للمجتمع المغلوب الأدوات والوسائل والموارد للتقدّم، وترفض منه ما تحسَبه مبْعثَ شرٍّ وإيذاء وتُنبِّه عليه. هكذا تحدَّدت وجهتها، منذ الميلاد، كدعوةٍ تتميّز الفارق بين أوروبا كغزوٍ واحتلالٍ واستعمار، وأوروبا كمدنيّةٍ حديثة تضوي في داخلها موارد هائلة لصناعة أسباب التقدّم، مثل العلم، والحرية، والإنتاج، والنظام السياسيّ الحديث، والعدل الاجتماعيّ والمساواة في الحقوق...إلخ. على أن تمسُّك رموز الإصلاحيّة بانتماء دعوتهم إلى دائرتها الحضاريّة الإسلاميّة دفعهم، وبدرجات مختلفة، إلى محاولات شتّى لبيان عدم التجافي بين ما يدعون إليه من أفكار وقيم ومؤسّسات - محمولة إليهم من الخارج - و(بين) الإسلام.ولكنّ الفكرة تولَّدت، أيضاً، من ديناميّةٍ داخليّة إيجابيّة، لا من حالةِ انكسارٍ فحسب؛ وبيان ذلك أنّ سؤال الإصلاح وتدارُكِ الفَوات وُلِد في أحشاء الدولة ونُخبِها السياسيّة الحاكمة قبل أن يَشبّ في وعي النخب الفكريّة. ونحن اليوم نعرف، على التحقيق، أنّ مشاريع الإصلاحات التي قادَتْها النخب الحاكمة في مصر محمد علي باشا، وفي تونس أحمد الباي، وفي المغرب السلطانيْن عبد الرحمن ومحمّد الرابع، وفّرتِ البيئةَ السياسيّةَ الموضوعيّةَ لاستيلاد أفكار الإصلاح، والحضِّ عليها، بل ولانشباك وشائج الصلة بين النخبة الإصلاحيّة المثقَّفة والنخب الإصلاحيّة الحاكمة في غير بلدٍ من البلدان العربيّة التي انشدَّت إلى «التنظيمات العثمانيّة» (برنامج الإصلاحات العثمانيّة). والحقّ أنّ المشروع الإصلاحيّ، الذي قادتْه النخب الحاكمة المومأ إليها، هو الذي أطلق الفكرةَ الإصلاحيّة في البيئات الفكريّة العربيّة، وكان من شأنه أن يولِّد - في الوقت عينِه - ظاهرةً جديدة هي (ظاهرة) الطّلب المتزايد على النخبة الإصلاحيّة؛ الطلب الذي تغيّا تعبئة حاجة موضوعيّة إلى الخبرة والكفاءة والتسويغ العقلي للإصلاح. ليس عسيراً على المرء أن يقف على المداميك المؤسِّسة للصّلة بين الفكرة الإصلاحيّة عند النخب الفكريّة والسياسات الإصلاحيّة لدى بعض النخب الحاكمة. ومع أنّ مطالب المفكّرين الإصلاحيّين كانت، على التحقيق، أبعدَ غايةً وأعلى سقفاً ممّا ابتغتْه النخبُ السياسيّة، أو تغيَّتْهُ ترتيباً، أو استطاعتْهُ إمكاناً؛ إلاّ أنّ تعبيرهم عن تلك المطالب، ونشر أفكارهم على أوْسع نطاقٍ - بما فيها تلك التي تنوء سياساتُ النخب الحاكمة بحمْلها- إنما حَصَلا [التعبير والنشر] بسبب ما أحيط به فعْلُ المفكّرين هؤلاء من حماية سياسيّة رسميّة (من قِبَل النخب الإصلاحيّة الحاكمة). وليس يصِحُّ أو يجوز، تحت أيّ ظرفٍ، استصغارُ شأن الحمايةِ تلك وابتخاس أمرها، أو عدِّها في جملة المُقابِلِ الذي تقدِّمُه الدولة مقابل الخدمة التي أسدتْها النخب المثقفة لها دفاعاً عن الإصلاحات وتسويغاً لها؛ ذلك أنّ موقع النخبة الثقافيّة الإصلاحيّة، في المجتمع والثقافة، كان هزيلاً وقدرتَها على استمالة الجمهور والتأثير فيه محدودة، قياساً بموقع النخبة المحافظة - المعادية للإصلاح - وقدرتها على مخاطَبة الذهنيّة العامّة. لقد كان الخطابُ الإصلاحيّ نخبويّاً وأحياناً، هامشيّاً ومعزولاً، ومع ذلك نجح في فكّ عزلته، نسبيّاً، وفي مزاحمة الخطابات المحافظة والمناهضة للإصلاح، لأنّ الدولة أحاطَتْهُ بالرعاية والحماية والتمكين. ولم يدبّ الوهْن فيه إلا حين تخلّت عنه الدولة وتبنَّتْ غيرَه.هل من حاجةٍ بنا، اليوم، إلى القول إنّ درس الماضي ممّا يحْسُن بنا - دولةً ونخباً ثقافيّة - أن نتَّعِظ به لأنّ شأنه شأن القانون بالنسبة إلى أيِّ اجتماعٍ سياسيّ وطنيّ؟ لا غناء للدولة عن العقل الذي به تستقيم سياساتُها وتستحوذ الشرعيّة، ولا غنَاء للعقل (المفكّرين) عن الدولة التي هي الحامِل (الأداتيّ والفاعل) لأفكارها. وكما تعسَّر كَسْبُ معركة الإصلاح أمس للانفصال النّكد بين العقل والإرادة الفاعلة (بين النخبة الثقافيّة والنخبة السياسيّة)، قد يتعسّر اليوم وغداً للسببِ عينه! abbelkeziz@menara.ma
مشاركة :