1 - من مرحلة سعر الصرف الثابت إلى التعويم الكلي: - بداية قرار تعويم العملة المحلية، وتحريرها من تقييدات البنك المركزي (الذي كان سابقاً، يربط قيمتها بتأرجح سلة احتياطي كتلة العملات الأجنبية، التي يتوفر عليها حتى لا تتدهور) سيجعلها هذه المرة، عرضة لميكانزمات العرض والطلب في الأسواق المالية الدولية الكبرى، يعني أن بنك المغرب سيضطر إلى أن يدخل لعبة المضاربة لحمايتها، أمام حيتان البورصات الكبرى، ومراقبتها عن قرب، دون أن تكون له سلطة قوية في التوجيه. ربما هذا ستكون له عواقب وخيمة، من بينها مثلاً، ارتفاع سعر سلع الواردات أكثر من الصادرات، في حالة انخفاض قيمة الدرهم أمام العملات الأجنبية القوية، التي تتم بها التعاملات التجارية دولياً، يعني مثلاً تكلفة موارد الطاقة، على رأسها البترول والغاز، ستكون جدّ مرتفعة على خزينة الدولة. لكن الذي، ربما، يهم المراقبين في كل هذا، هو محاولة كشف، إن كان ثمة سر من وراء إصرار خبراء صندوق النقد الدولي، وضغوطاته المتوالية منذ مدة، على إرغام المغرب على السير في هذا الاتجاه، والمغامرة بتغيير نظام الصرف الحمائي، والإلقاء به وحيداً، للعوم مع كبار الوحوش المالية! طبعاً والي بنك المغرب المركزي يحاول حالياً أن يطمئن الجميع، وصرح بأن الأمر سيحدث تدريجياً وعبر سنوات مع مراقبة لصيقة للتدخل عند اللزوم. فإذا عدنا إلى الوراء، وألقينا نظرة على النظام النقدي المعتمد في السنوات القليلة الماضية، سنجد أن البنك المركزي كان يتبنى نظاماً، يحدد سعر الصرف على أساس التكافؤ الثابت. يعني، كان يعتمد رسميا نظام الصرف الثابت، مع ربط عُملته بسلة عملات أجنبية (60٪ لليورو و40٪ من الدولار)، وصارت بذلك العملة المغربية لديها هامش تذبذب طفيف، بنسبة 0.3٪ صعوداً أو هبوطاً، مقابل العملات الأخرى. فهكذا كان ينزاح الدرهم، وتتحرك قيمته، داخل شريط في حدود 0.6٪، يسمح للبنك المركزي بالمراقبة اللصيقة والتدخل عند المستويات التناسبية، لشراء العملة أو بيعها. وعن طريق هذه العمليات إذن التي تخولها له مكانته كسلطة مالية، لها صلاحية سيادية، يتمكن من ضبط حركات التدفقات المالية بين مصارف البلد ومحيطه الخارجي. ثم إذا لاحظنا جيداً، فهذا الشريط، حيث تتغير معدلات صرف الدرهم، مقابل العملات الأجنبية - كما أشرنا فوق - يمثل، فعلياً، كيف كانت تتحرك قيمة العملة المغربية، وتتطور داخل مرونة محدودة، سنعتبرها نحن المرحلة الأولى مما اعتمدته السلطات النقدية، وتبنته كإصلاح نقدي محض، غير هيكلي، بداية من سنة 2015. ثم ستأتي هذه الخطوة الحالية (خطة التعويم) لتفعيل نظام سعر الصرف المرن تدريجياً، يعني أن البنك المركزي المغربي لم يعد يحدد سعر الصرف، والذي سيحدده، هذه المرة، قانون العرض والطلب، وبهذا سيتم إلغاء هامش الأمان الذي كان موجوداً من قبل. وطبعاً، قبل الوصول إلى هذه المرحلة النهائية، من التعويم الكلي لعملة الدرهم، فإن نظام سعر صرف العملة سيمر بمرحلة انتقالية متذبذبة، لم تتم الإشارة إلى فحواها من طرف الإعلام المحلي، تتلخص في القيام مستقبلاً بإجراء تعديلات متقطعة، تبدأ بتوسيع ذلك الشريط تدريجياً؛ حيث تتحرك نسب سعر صرف قيمة الدرهم، إلى المستوى الذي يروونه المسؤولون مناسباً للتعويم الكامل وبالتالي الطلاق النهائي، وتركه عرضة لتموجات أسواق العملات الخارجية، فيما بعد، التي ستظهر لأول مرة هل قيمته الحقيقية تترجم فعلاً دينامية وتنافسية الاقتصاد المغربي، أما إن دعمه السابق من طرف السلطات النقدية، كان غطاء وصمام أمان، يعزله عن الصدمات الخارجية. 2- هل بنك المغرب مؤسسة مستقلة في احتكار القرار؟ - من الإشارات الطريفة التي ترسلها أوساط السلطات المالية عندنا وتتطلب شيئاً من الفطنة لالتقاط فحواها، هو أن بنك الدولة المغربية فعلاً مؤسسة مستقلة، محاطة بكل الهيبة التي تقتضيها أسرار أي دولة سيادية في تنفيذ قراراتها المصيرية الكبيرة. استقلالها إزاء الحكومة التنفيذية واقع وجارٍ به العمل، رغم أنف مَن يتعلقون بأهداب دستور معدل، وجزء من مقتضياته غير منزلة، ويقول عكس هذا. هذا الاستقلال يتم ترجمته، بشكل ملموس، مثلاً، في أن القرارات النقدية لم تعد تتخذ في عاصمة المغرب الإدارية، وإنما في مقر صندوق النقد الدولي في قلب واشنطن. لأن مَن هناك، لتذكير الغافلين، تم الإعلان عن مرور المغرب إلى نظام الصرف المرن، في زيارة خاطفة لولي بنك المغرب، قبل حلول بعثة خبراء فنيين، من قلعة البنك العالمي، لمواكبة الإجراءات التقنية الضرورية لإنجاح العملية. هذه الاستقلالية، التي يتمتع بها بنكيو الدولة، هي أن قراراً اقتصادياً مهماً خاصاً بنظام صرف سعر العملة الوطنية، سيتم الاحتيال بكل الطرق، حتى يبقى مبهماً ويتم العمل بتفادي مناقشته، من طرف مؤسسة شرعية منتخبة (البرلمان) قبل وضعه على السكة. وحتى إذا ثبت أن آثار هذا التدبير سيثمر تداعيات سلبية بالنسبة لعموم الاقتصاد الداخلي، فالمسؤولية ستنمحي ذاتياً، كقدرة الساحر على إحداث الطمس والإخفاء، ولن تقع على كاهل أحد؛ لأن الجواب سيكون حينها جاهزاً، وهكذا سيصبح النموذج المقترح في تفعيل نظام سعر الصرف المرن، قد مر تحت غطاء دراسة تكنوقراطية فنية صرفة، ليس من وراء تخطيطها، أي إرادة سياسية يمكن محاسبتها، ولا هم يحزنون! أما بالنسبة لمضامين رهانات هذا القرار المصيري (تحرير أسعار صرف العملة المحلية، تدريجياً، وصولاً إلى محطة التعويم النهائي) فإن أهدافها الفعلية على مدى البعيد، طبعاً وكالعادة، لم يتم توضيحها صراحة، بما فيه الكفاية لتبديد كل لبس. اللهم ما يصرح به، من طرف بعض المسؤولين، وفقاً لأجندة اجتماعات داخلية طارئة، أو في تلك الخرجات الإعلامية التي القصد منها، في بعض الأحيان، التبشير بخبر القرار التاريخي، والتهليل له، أكثر منه تبسيط للمفاهيم وشرح الآليات التقنية، وتسليط الضوء على طرق الاشتغال المعتمدة وفعاليتها، أمام الرأي العام. فإذا عُدنا إلى ما تتداوله الحكومة، للترويج لهذا القرار، مؤكدة مثلاً أن هذا الإصلاح النقدي، يهدف تقوية مناعة الاقتصاد إزاء الصدمات الخارجية، ويسمح للاقتصاد المغربي باندماج أفضل في المنظومة المالية العالمية، وبالتالي الحصول على تمويل وتدفق كافٍ من الاستثمارات الأجنبية، مع العلم أن الحمائية النقدية المعمول بها سابقاً، والاندماج النقدي الضعيف في نظام أسواق البورصات العالمية، هو الذي جنّبته كوارث أزمة 2008 الاقتصادية. ثم يزايد علينا خبراء الحكومة المغربية بمبرر يكررونه مراراً، ألا وهو دعم القدرة التنافسية للاقتصاد المغربي وتحسين نموه! في انتظار طبعاً توضيح ما هي هذه الطريقة الإعجازية للرفع من تنافسية الصادرات، وكيف لها أن تتحقق، ونحن نعلم أن السياسة الصناعية الموجّهة من طرف الدولة، ضعيفة الإمكانيات، والنسيج الإنتاجي في الوسط الصناعي جدّ متوسط، إلى جانب عدم توافر المقاولات والشركات المحلية، على المقومات التي تمكنها من مواكبة ومسايرة مرحلة تغيير نظام الصرف وتعويمه تدريجياً، وفي ظل وجود مناخ غير ملائم للأعمال، خاصة أن البنوك تتحرز من إعطاء القروض بفوائد مناسبة للاستثمار. والأخطر، تفشي مؤخراً، ظاهرة الإفلاس في صفوف المقاولات بشكل جدّ مقلق. ومع ذلك كل هذه الجهود المبذولة من طرف السلطات النقدية المغربية لتغيير نظام الصرف، وإطلاقه من قيوده السابقة، سيخضع في النهاية إلى محك التجربة، عن طريق واقع السوق وآليات العرض والطلب؛ ليؤكد للمراقبين هل النموذج الاقتصادي المغربي سيتحول لما هو أفضل؟ يعني هل سيخرج من دوامة الاستهلاك الداخلي المنغلق للدخول مباشرة في حلقة الإنتاج الفعلي المصدّر، وصعود مكانته إقليمياً؟ ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :