حرب جديدة على القطاع ستعيد الزخم للحركة في الشارع العربي، وستثبت لإيران أنها لا تزال ذراعا يمكن التعويل عليه، دون مشاكل تطال الإيرانيين أنفسهم.العرب أحمد أبو دوح [نُشر في 2018/02/19، العدد: 10905، ص(9)] ليس منطقيا فصل المواجهة بين إسرائيل وإيران في سوريا، وبين الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة. الإسرائيليون يعلمون أن حركة حماس ليست هي المسؤولة عن الهجوم على دورية حدودية إسرائيلية أصابت 4 جنود، لكنهم يعلمون أن إيران هي المسؤولة عنها. مع ذلك تبدو إسرائيل مستعدة اليوم أكثر من أي وقت مضى لشنّ حرب جديدة على غزة. تعقيد المسألة في الصراع الإيراني – الإسرائيلي في سوريا ولبنان، ليس هو نفسه عندما يتعلق الأمر بغزة. الدخول في حرب مع إيران في سوريا يبدو مستبعدا من جميع الأطراف. الإيرانيون ليسوا مستعدين لتجاهل الآثار الخطيرة على النظام التي تركتها الاحتجاجات الشعبية التي اندلعت أواخر العام الماضي، ورفع خلالها المحتجون لافتات تندّد بالتخلّي عن مصالح الشعب الإيراني لحساب التدخل في دول المنطقة. أي حرب مع إسرائيل في سوريا ستكون مكلفة في الأرواح والموارد، وفي رد فعل الداخل الإيراني الذي لن يكون متوقعا حينها. حزب الله الذي استهلك جزءا كبيرا من قوته الضاربة في سوريا، ليس مستعدا للدخول في حرب استنزاف جديدة قد تكون نتائجها مغايرة لحرب يوليو 2006. تقول التقديرات الإستراتيجية الأميركية لأي حرب محتملة قد تندلع في جنوب لبنان إن الإسرائيليين عازمون هذه المرة على تدمير القوة العسكرية لحزب الله تماما، أو على الأقل إرجاعها إلى أواخر الثمانينات من القرن الماضي، عندما كان لا يزال ميليشيا وليدة. ليس هذا هو الوقت المناسب سياسيا أيضا لدخول أي حرب بالنسبة للحزب، الذي يسعى إلى حشد قواه لخوض الانتخابات النيابية اللبنانية، وليس حشدها لخوض حرب ضد إسرائيل. حتى الإسرائيليون، الذين يشهدون تهديدا مغايرا هذه المرة لكل التهديدات العربية التي شكلت عقيدة الجيش الإسرائيلي القتالية، يعلمون أنهم لا يستطيعون تحمّل الخسائر البشرية الهائلة التي يعنيها أي انزلاق في المستنقع السوري الآن. آخر ما يريده الإسرائيليون هو عودة مشاهد توابيت القتلى التي لم يعتد عليها المواطن الإسرائيلي منذ حرب أكتوبر 1973. كل هذه المعطيات تحول دون اندلاع حرب وشيكة بين إسرائيل وإيران في سوريا، لكن الوضع ليس هو نفسه في غزة. رغم إعلان الصحف الإسرائيلية الانتصار في حادثة إسقاط الطائرة دون طيار الإيرانية في 9 فبراير الجاري، ورد الفعل الإسرائيلي بتدمير قواعد سورية ومراكز للتحكم والسيطرة ودفاعات أرضية، مازالت إسرائيل لم تفق من حادثة إسقاط طائرة إف 16. هذا حادث لا يتكرر كل يوم في إسرائيل ولم يحدث مثيل له منذ عام 1982. التدخل الروسي في سوريا منع تصعيدا كاد يخرج عن السيطرة. إسرائيل تعلم أن روسيا، بصفتها المتحكم الأساسي في كل ما يدور في سوريا، لن يمكنها تجاهل أي تحركات إسرائيلية دون التنسيق معها. لكن في غزة ليس ثمة من تحتاج إسرائيل للتنسيق معهم. بات واضحا الآن أن الانتقام الإسرائيلي من إيران سيكون في غزة. هذه هي المنطقة الرخوة التي يمكن استهدافها من دون قلق حقيقي لدفع ثمن هذا التحرك، لا على المستوى السياسي ولا العسكري. غزة أيضا هي الطريق التقليدية التي عادة ما تلجأ إليها إسرائيل من أجل تغيير مجريات الأحداث أو إرسال رسائل معينة. قطاع غزة بالنسبة لإسرائيل إذن هو الزر الذي تضغط عليه من أجل تحقيق أمنياتها، خصوصا إذا كانت هذه الأمنيات في يد الولايات المتحدة ومعها الأوروبيون. كلفة أي حرب على غزة ستكون أقل كثيرا من المكاسب التي ستحققها إسرائيل في المقابل. مسألة الكلفة دائما ما تشكل رادعا في العقدية السياسية والعسكرية الإسرائيلية، ومحورا هاما لاتخاذ قراراتها، حتى في ظل أكثر الحكومات يمينية. توسيع نطاق الاشتباك مع قوات إيران وأذرعها في سوريا، مسألة بديهية لتصعيد مقابل على جبهة حماس في قطاع غزة. تهديد وجود القوات الإيرانية في سوريا خط أحمر بالنسبة لطهران، التي تبدو مستعدة لإشعال المنطقة في سبيل الحفاظ على تمركزها في سوريا، حلقة الوصل الرئيسية لنفوذها في الشرق الأوسط. هذا يعني أن الاشتباك مع إسرائيل هناك يجب أن يقود إلى حرب شاملة ضد إسرائيل على كل الجبهات. الحرب على غزة لا تعني في المقابل حربا موازية في سوريا. إسرائيل على استعداد لدفع خسائر محدودة في غزة، في مقابل إجبار الولايات المتحدة، التي تشعر إسرائيل أن أمنها لم يعد من بين أولوياتها في سوريا، على إعادة النظر في سياساتها في المنطقة برمتها. الإسرائيليون يريدون من واشنطن إعادة تموضع تستعيد “أمن إسرائيل” كحجر زاوية تبني واشنطن عليه تحركاتها الإقليمية. لكن إسرائيل ليست وحدها مستعدة لخوض حرب في غزة، بل يبدو أن حركة حماس أيضا ترى مخرجا لها في هذه الحرب. هذا هو السيناريو المتوقع عند سحب كل الخيارات من حماس. رغم الاعتدال النسبي الذي أظهره إسماعيل هنية ورجاله منذ توليهم قيادة المكتب السياسي، فالمشروع الذي كان يعوّل عليه هذا الخطاب المعتدل بات تحققه محل شك. هذا المشروع هو المصالحة مع حركة فتح. مشكلة المصالحة هي أنها تحوّلت إلى الشيء الصحيح في الوقت الخطأ. ارتباط المصالحة زمنيا مع قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب باعتبار القدس عاصمة لإسرائيل قضى عليها تماما. الرئيس الفلسطيني محمود عباس لم يعد راغبا في مصالحة مع طرف يعتبره الغرب “منظمة إرهابية” ويتبنى خطابا “متشددا” قد يقوّض من شرعية تحركاته الدولية للضغط على واشنطن من أجل إعادة النظر في جوهر هذا القرار. عباس يرى أن المصالحة الآن مع حماس تعني قطيعة غير معلنة مع المجتمع الدولي. هذا هو منطلق سياسة فتح بوضع العصا في العجلة، عبر الحديث عن ملف الموظفين والجباية وحل اللجنة الإدارية، التي حُلّت أصلا، والسماح للحكومة بالعمل في غزة، رغم أنها لا تفعل شيئا اليوم في غزة غير أنها تعمل. حركة حماس لديها أجندتها الخاصة أيضا. من جهة هي تريد أن تعود مرة أخرى من المنفى الإقليمي الذي أجبرت عليه، عبر استغلال قرار ترامب بإشعال حرب مع إسرائيل، قد تمنحها بعضا من خياراتها المفقودة، ومن جهة أخرى تسعى إلى مصالحة تضفي عليها شرعية دولية باتت تتطلع إليها منذ التغييرات الواسعة التي أدخلتها على ميثاقها التأسيسي العام الماضي. حرب جديدة على القطاع ستعيد الزخم للحركة في الشارع العربي، وستثبت لإيران أنها لا تـزال ذراعا يمكن التعـويل عليه، من دون مشاكل تطال الإيرانيين أنفسهم. لأول مرة تبدو الحرب على قطاع غزة خيارا يصبّ في مصلحة جميع الأطراف. على الفلسطينيين إذن أن يستعدوا لانفجار قريب. كاتب مصريأحمد أبو دوح
مشاركة :