فيما كانت غوطة دمشق الشرقية ترزح تحت وطأة قصف جوي ومدفعي خطف أصوات وحياة عشرات الأطفال (ربما المئات)، كانت منظمة الأمم المتّحدة للطفولة (يونيسف) تفتتح معرضاً فنياً في بيروت بعنوان «حنين» أبطاله أطفال سوريون نازحون، لإعلاء أصواتهم المقهورة والحديث عن آثار الحروب عليهم، ورفع مطالبهم بحياة آمنة. المعرض المستمر حتى 4 آذار (مارس) المقبل، يدمج بين نصوص وقصائد كتبها أطفال سوريون وأعمال فنية لـ47 فناناً، غالبيتهم لبنانيون عاشوا الحرب الأهلية اللبنانية وعايشوها ولا تزال تسكن وجدانهم، وأثّرت فيهم في شكل أو آخر، كما يقول المشرف على المعرض الفنان شادي عون. لذا نرى حواراً حياً وحقيقياً بين النصوص المكتوبة والأعمال الفنية الحزينة والواقعية. الأطفال كتبوا هذه النصوص من خلال ورشات عمل تابعوها في مخيمات اللجوء في لبنان، ضمن نشاط «نادي الصحافة» الذي تقوده جمعية «بيوند» اللبنانية لمعالجة الأطفال نفسياً عبر الفن والكتابة. كتب 39 طفلاً ما يشعرون به وما يزعجهم بعيداً من أرضهم وبيتهم وعالمهم في سورية، وما يتعرضون له من قهر وذلّ، وما بينهما من مساحات أمل وحب. وأرسل شادي عون النصوص لفنانين ويعرف اهتمامهم بقضية الحروب ومآسيها وتأثيرها على الأطفال، ليستوحوا من خلالها أعمالاً معبّرة عن هموم هؤلاء الصغار وهواجسهم. «أعتب عليك يا بحر... لماذا ابتلعت صديقي؟»، «هل لعبتي كبُرت قبل أوانها مثلي؟»، «كانت تلبس ثوب العرس وملامح الطفولة في وجهها الحزين»، «اشتقت إلى حلب وعطرها»، «أتمنى لو أنّ أبي لم يُقتل في الحرب لأناديه: أبي»، «من هما هاتان الياسمينتان؟ إنهما سورية ولبنان»... بمثل هذه الجمل الموجعة تستقبلك أعمال المعرض الـ47 التي تتراوح بين الرسم والكولاج والنحت والموسيقى. ولعل أكثر النصوص تأثيراً تلك التي كتبتها فاطمة التامر (10 سنوات) من إدلب، ووضعت أمام لوحة معبّرة وقاسية للفنان فارس كاشو بطلتها طفلة من الثلج أمام خيم سوداء لها عيون. كتبت فاطمة مستوحية من حادث هزّ مشاعر العالم السنة الماضية عندما ماتت طفلة سورية من الصقيع في أحد المخيمات: «الشتاء الماضي مات أطفال من البرد... وهذا المساء أخاف أن أموت أنا!». لم تمت فاطمة من البرد، لكن هذه الحوادث لم تتوقف ولا يزال النازحون يشكون من شدة البرد والجوع والخوف، ولا يزال أطفال سوريون يموتون في العراء أو تحت القصف. تلك اللوحة التي وضعها المشرف على «حنين» شادي عون في صدر المعرض، تختصر كل الحكايات المأسوية للتهجير والفقد والضياع والحنين إلى الدفء والبيت الآمن وصدر أم حنون والى الأمل... أما النص الصادم فهو الذي كتبه شكري عسكر من حلب (14 سنة): «10-9 رقم صفي، 16 رقم خيمتي، 3 رقم طاولتي في الصف، 5 رقمي بالاجتماع، 3212576 رقم بطاقة الأمم المتحدة، قائمة لا تنتهي من الأرقام التي باتت تزعجني وتسبب لي الاضطراب... لم نعد نشعر بأننا بشر، بل بأننا رجال آليون لنا أرقام نُعرف بها وليس أسماء». كتب شكري نصاً حول الرياضيات التي صار يكرهها كما قال لـ «الحياة» بعدما صارت حياته هنا في بيروت عبارة عن «أرقام بأرقام، وفقدت هويتي الفردية ولم أعد أستمتع باسمي الذي تعب أهلي ليختاروه لي»... ليست نصوص هؤلاء الصغار (بين 8 و15 سنة) هي فقط الصادمة والقاسية والتي تحمل معانيَ وقضايا فلسفية وجودية، بل شخصياتهم أيضاً. فعندما يتحدثون إليها تشعر أنك تتحدث مع كبار في السنّ «أكل الدهر عليهم وشرب»، كما يقول المثل. هم ناضجون ويعون ماذا يفعلون، ويأسفون لأنهم دخلوا باب الفن والكتابة من خلال الحرب. تقول يارا السفوك (14 سنة) لـ «الحياة»: «أنا أريد أن تنتهي الحرب فقط، لا أريد شيئاً آخر الآن، هذه أمنيتي، لا أريد أن أكون كاتبة مهمة أو رسامة مهمة، أريد أن أعود إلى سورية حيث كنت سعيدة وأن تتوقف إراقة الدماء والحقد. أنا أشعر في لبنان بأنني شبه مسجونة»... أتت فكرة المعرض عندما زارت سهى بساط بستاني المستشارة والمنسقة للمشاريع في مكتب «يونيسف» في بيروت، ورشة عمل أقامتها جمعية «بيوند» اللبنانية، لأطفال نازحين سوريين في البقاع، حول العلاج بالفن والكتابة ومحو الأمية. «عندما قرأت النصوص بكيت، وقلت إن هذا العمل يجب أن يوثق ويجب أن تصل هموم هؤلاء الصغار الذين كبروا قبل أوانهم إلى أكبر عدد ممكن من البشر». وتضيف بستاني: «الحرب السورية دخلت اليوم عامها الثامن، وقد تعب السوريون ومعهم وسائل الإعلام والممولون والمنظمات، وصارت قضية النازحين مستهلكة، ولكن نحن كمنظمة تعنى بالأطفال لا يمكننا أن نتوقف عن العمل لأن الحرب لا تزال دائرة، لذا فكرنا بنفس جديد ومشروع خلاق فكان معرض «حنين» لنوصل أصوات الأطفال الحزينة والمهمومة، وكي لا يُحبط كل من يعمل مع الأطفال السوريين». وتعوّل بستاني على أن «يكون هذا المعرض مدخلاً ليتحدث الإعلام عن مدى اختراق الحرب لقلوب الأطفال ومخيلاتهم، وبالتالي لحض الممولين على دعم تقديم مزيد من الموارد».
مشاركة :