أساءت المخرجة الإيطالية اللبنانية يارا بوريللو التقدير مرتين، مرة عندما تركت مشهد الفنان العراقي في فيلم «بيت بيوت» وهو يتحدّث عن «فتنة في سورية» متغاضيًا عن معاناة شعب استبيح على مرأى من العالم أجمع، شعب قُصِف وما زال بالأسلحة الكيماوية والبراميل المتفجّرة، مختزلًا ذلك كلّه بـ «فتنة في سورية»، ومرة عندما اختارت عرض فيلم «بيت بيوت» تزامنًا مع فيلم «بين الحروب»، فاقتصر الحضور على كل من يؤيدون وجهة نظرها السياسية. وهي لم تتوانَ عن التلميح بها في فيلم «بيت بيوت»، الذي شارك في مهرجان «كان» ونال جائزة أفضل وثائقي قصير في مهرجان لندن للأفلام المستقلة، ثم المجاهرة بها علانية من خلال تبنّيها الواضح في فيلم «بين الحروب» لخطاب الفلسطيني محمود رمضان، الذي ولد وعاش في لبنان وغادره إلى سورية خلال الحرب الأهلية، وعاد إليه إثر الأحداث الأخيرة التي اندلعت هناك، ليستقرّ في مخيم عين الحلوة. في فيلمها الأول «بيت بيوت»، تعتمد بوريللو الرمزية حيث نجد المنزل الذي يبنيه طفل بالرمال وأغصان الأشجار، والبيت الذي يُشيَّد من الحجر، وذاك الذي يصنعه طفل آخر من قطع الليغو. وكأنّها تقول إنّه مهما تعددت وتكررت وتنوّعت المصائب ستتعدّد معها سبل التصدي وتستمرّ. تحكي بوريللو في «بيت بيوت» قصة فنان عراقي هُدِمت بيوته في بغداد ودمشق، وتخلص إلى أنّه سيبني بيته من جديد حتى لو اضطرّته الظروف إلى بنائه من قطع الليغو. القصة تجمع إذًا بين الخيالي والواقعي؛ فهي حكاية هذا الفنان الذي لجأ إلى سورية بعد اندلاع نيران الحرب في بلده العراق، وبعدها غادرها إلى لبنان خلال الحرب السورية. تنتهج بوريللو في مقاربتها لعبًا درامية وإخراجية بسيطة تحاكي أسلوب السهل الممتنع، فتبدو مبتكرة من ناحية عدم لجوئها إلى مشاهد اعتدناها في التعبير عن الحرب وهي الدم والجثث والعنف، بل استخدامها رمزية المنزل، ببنائه وتدميره، كعنصر للتعبير عمّا تخلّفه الحروب من دمار في الحجر والبشر. ولعلّ ما يؤثّر في المُشاهد هو صوت الطفل الذي يبكي عندما يُهدَم المنزل، ثم صوت ضحكته عندما يقوم طفل آخر ببناء البيت من قطع الليغو. ففي المزج بين البكاء والضحك هنا لعبة درامية ذكية تجمع المتناقضات التي تكمن في الحرب والتصدّي. إذًا فإن فيلم «بيت بيوت» جاء رمزيًا مستندًا إلى الواقع حيث اختار أن يحكي قصة حقيقية ويوظِّف معاناة هذا الفنان العراقي، إثر فقدان بيته في العراق وفي سورية، للتعبير عن الدمار الذي تخلّفه الحروب. أما فيلم «بين الحروب» فيحار المرء حقًا في ما تريد بوريللو أن تقول من ورائه؛ فهي لا تتوانى، في مقارنة يجريها لاجئون فلسطينيون بين وضعهم السابق في سورية ووضعهم الحالي في لبنان، عن الترويج للنظام السوري؛ إذ لم تختَر في المقابل لاجئين فلسطينيين مثلًا ممن عانوا من ظلم وتعنّت النظام في سورية لتروي قصصهم بالتوازي. ويبدو هذا «الوثائقي» – إن جازت التسمية – أشبه بأحد أفلام الترويج التي تبثّها القنوات المساندة للنظام السوري على امتداد ساعات النهار، حيث يُفقِد انعدام الحياد الوثائقي عناصره ويتحوّل إلى مشاهد ترويجية أشبه بالبروباغندا التي تستغلّ معاناة اللاجئ السوري والفلسطيني في لبنان للترويج لاستقرار مزعوم في سورية، أيام كان النظام يشدّ قبضته على خناق تلك البلاد. وقعت هنا بوريللو في السقطة التي يقع فيها بعض المخرجين، بخاصة من هم في بداياتهم السينمائية، ووقعت أسيرة موقفها السياسي من دون أن تمتطي الحياد الإيجابي، إن لم نقل أن تتواطأ مع الحق عوضًا من أن تنحاز إلى الباطل. قد يظن البعض أن بوريللو نجحت في اختيار المحتوى الإنساني في فيلميها هذين، ذاك الذي يهمّ اللبناني والسوري والعراقي والفلسطيني في شكل خاص، والعربي والعالمي في شكل عام، إلّا أنها سقطت في هوّة المقاربة المنحازة فأفقدت مادتيها السينمائيتين هاتين محتواهما ومضمونهما الإنساني. «بيت بيوت» و «بين الحروب» فيلمان وثائقيان قصيران للمخرجة الإيطالية اللبنانية يارا بوريللو عرضتهما دار النمر للفن والثقافة.
مشاركة :