خطيب الحرم المكي: الشائعات من أشد الرماح هتكاً لحمى الوحدة

  • 2/23/2018
  • 00:00
  • 10
  • 0
  • 0
news-picture

أوصى إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور عبدالرحمن السديس، المسلمين بتقوى الله عز وجل، والعمل على طاعته واجتناب نواهيه. وقال في خطبة الجمعة التي ألقاها اليوم من المسجد الحرام: من تَمَعّن في مقاصد شريعتنا الفيحاء الغراء؛ ألفاها حقّقت أعظم المصالح وأسنى المقاصد، وزكّت النفوس عن البوائق والمفاسد؛ فصاغت مجتمعاً شريفاً أَنوفاً، للآثام والمحرمات عيوفاً، وعن مساقط الأدران عزوفاً؛ وبذلك قادت أمتنا المباركة الفضائل والمكارم بزمام، وبلغت من الذود عن الأعراض والمحارم الذروة والسنام، وعلى غارب العصر التقاني الأخاذ الذي سبى الأفهام، وسحر الضعاف من الخاصة والعوام، تبرز قضية مؤرقة فاتكة، ولوحدة الأمة وائتلافها ممزقة هاتكة، تلكم الشائعات المقيتة المغرضة والأقوال المرسلة المتناقضة، والأخبار الكاذبة المتعارضة، التي يسعى في نشرها مهازيل وأغرار، وسفهاء ضلال، لُحمتهم القيل والتخمين، وسداهم الافتراء المبين؛ فبئست المسالك المعوجة، والرعونات السحماء الفجة، وكم يُبتلى الناجحون الطامحون بأهل الحقد والحسد؛ ولكن ذلك لا يفلّ عزمهم؛ بل يزيدهم ثقة وشموخاً ونجاحاً وطموحاً. وأضاف: الإسلام نهى أتباعه أن يطلقوا الكلام على عواهنه ويلغوا عقولهم عند كل شائعة، وتفكيرهم عند كل ذائعة، أو ينساقوا وراء كل ناعق، ويصدقوا قول كل دعيّ مارق؛ فجاء الزجر الشديد، والوعيد القاطع الأكيد، في السنة والكتاب بسوء المصير والمآب، لكل مشاء بالبهت مفتر كذاب، قال جل وعلا: {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً}، وقال سبحانه: {ولا تطع كل حلاف مهين، هماز مشاء بنميم}، وأخرج الإمام مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كفى بالمرء كذباً أن يحدّث بكل ما سمع"؛ فأي وعيد أو تهديد أشد وأنكى من هذا الوعيد الشديد، وأي تحذير من نقل الكلام دون تثبت أجدى من هذا التحذير. وأردف: الشائعات والأكاذيب من أشد الرماح الهاتكة لحمى الوحدة والجماعة؛ فكم تَجَنّت على أبرياء، وأشعلت نار الفتنة بين الأصفياء، وكم هدمت من وشائج، وتسببت في جرائم، وفككت من أواصر وعلاقات، وحطمت من أمجاد وحضارات، ولم يَسلم منها أهل الصلاح ذوو الأفهام، ولا حتى الأنبياء والرسل الكرام؛ فهذا المسيح عليه السلام تُشكك الشائعات المغرضة فيه وفي أمه الصديقة، قال تعالى {يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغياً}، ويوسف بن يعقوب بن إبراهيم أنموذج من نماذج الطهر والنقاء ضد الشائعات المغرضة التي تمسّ العِرض والشرف، قال تعالى {كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين}. وتابع: السيرة العطرة لرسول الهدى أنموذج يحمل في طياته نماذج حية لتأريخ الشائعة والموقف السليم منها؛ فقد رُميت دعوته المباركة بالشائعات منذ بزوغها؛ فرُمي بالسحر والجنون، والكذب والكهانة، وافتنّ الكفار والمنافقون الذين مردوا على النفاق في صنع الأراجيف الكاذبة والاتهامات الباطلة ضد دعوته. وقال "السديس": لعل من أشهرها حادثة الإفك الشهيرة؛ تلك الحادثة التي كشفت عن شناعة الشائعات وهي تتناول بيت النبوة الطاهر، وتتعرض لعرض أكرم الخلق على الله، وعرض الصدّيقة بنت الصديق رضي الله عنها وعن أبيها، والتي نزلت براءتها من فوق سبع سماوات، وجاء معه العتاب قال تعالى: {ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم}. وأضاف إمام وخطيب المسجد الحرام: لقد عَظُم الخطب وجلّت الرزية واستخفت البلية بفري أعراض رموز الأمة وقادتها وعلمائها، ممن أعراضهم أشرق من ذكاء، ومناقبهم بعدد أنجم السماء، ويقصدون بهذا السوء حطاً من أقدارهم، ووقيعة في أعراضهم، ونزعاً للثقة والمرجعية منهم، بالازدراء والتشهير في وسائل الإعلام الحديث عبر ما يُعرف بالتغريدات والوسوم؛ فإذا نظرت ثم رأيت ثرثرة ولآمة، وهراء وفدامة، وكثيراً قد سل للبهيتة أقلامه، وصوّب للجرم سهامه، وجرّد -يا ويحه من لسانه- حسامه، طعناً في الأخيار والبرآء، والمصلحين والنزهاء الذين يعيشون قضايا الأمة وجراحها، ويضمدون نزيفها ويرومون فلاحها، وقد قال: (كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه) أخرجه مسلم، وقال أيضاً محذراً ومتوعدا: (يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من اتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته) أخرجه أحمد وأبو داود. وأردف: كيف بأناس ديدنهم التشويش ومطيتهم التحريش، وسجيتهم الإثارة والتهويش، قاموسهم سوء الظن، ومعاجمهم الأذى والمن، يبادرون بالاتهام، ويستعجلون بالجفاء والاصطلام، يُكثرون الوقيعة والعتاب، ولا يتورعون عن الشتائم والسباب، ويطعنون في الخواصر، ويصوبون سهامهم تلقاء القفا، إذا رأوك في نعمة حسدوك، وإن تواريت عنهم اغتابوك: {أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله} يعملون ليل نهار على الحط من الأقدار، والنيْل من الكفاءات، وتشويه صورة البرآء، الأخيار النزهاء، يتحركون كالخفافيش في الظلام، ويعملون خلف الكواليس، ليس لأحدهم اسم منصوص، أو وجه كباقي الشخوص؛ بل يتنكرون كاللصوص وراء أسماء مستعارة، وشعارات براقة، وهي في حقيقتها غدارة ختارة، {حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق}، وما درى هؤلاء أنهم ينشرون فضائل محسوديهم ويرفعون ذكرهم. ودعا "السديس" المتهوكين في سير العباد ونياتهم، إلى أن يتجافوْا عن تلك المساخط، ويكفوا عن تتبع العيوب والعورات، وتقصّد النقائص البشرية والعثرات. وتابع: هذا سلوك رث هدام وخلق أهل اللؤم والآثام، محاد لشرع الله تعالى وهدي رسوله القائل: (طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس) أخرجه البزار في مسنده، والبيهقي في شُعَبه، وقال بعض السلف: أدركنا السلف الصالح وهم لا يرون العبادة في الصلاة والصيام؛ ولكن في الكف عن أعراض الناس.. أيها المتسرعون في نقل الكلام والمصغون والمصدقون والناشرون الشائعات الطغام: أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم، وارغبوا إلى الديان بالنجاة والسلامة، قبل حلول الفجاءة والندامة، قال تعالى: {لولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم}، {ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم في ما أفضتم فيه عذاب عظيم}. وشدد إمام وخطيب المسجد الحرام، على حفظ الألسنة عن ذوي الأقدار والهمم، ووجوب إظهار منهج الأخلاق والقيم، المتميز الذي ينضح بنبل الشمائل والخلال، وقال: "فمن بُلِي من آثار الإفك والحديث عن عورات الآخرين؛ فليتقِ الله ويستعِنْ به ويصبر، ولا يزيده ذلك إلا ثقة وإصراراً وإيماناً؛ فإن العاقبة للتقوى، وليتيقن أنه لا يحيق المكر السيء إلا بأهله، وكذلك الخائنون للأديان والأوطان". واختتم بالقول: يا من بليتم بالإفك والافتراءات لا تحسبوه شراً لكم؛ بل هو خير لكم؛ فيجب الحفاظ على النسيج الاجتماعي في الأمة، ومنظومة تآلفها المتألقة، والتوارد على ميثاق شرف أخلاقي؛ خاصة في وسائل الإعلام الجديد، وسَن الأنظمة الحازمة لردع كل مَن تُسول له نفسه السير في هذا الطريق الشائن وإيذاء المسلمين.

مشاركة :