الديموقراطية كقيمة ووسيلة للحكم أصبح فهمها وإدراكها مزدوجاً في ثقافتنا نحن كمجتمعات عربية، فتحوّلت نوعاً من القداسة التى لا تقبل غير التأويل الواحد للحياة السياسية المبنية على شرعية صندوق الانتخاب للحُكّام، ومن يخرج عن قواعدها يكون ارتكب المحرمات كافة. فهل هي فعلاً بكل هذه المثالية التي يلوكها المتشبثون بها في هذه المجتمعات التي لم تألفها بعد؟ فمن ينظر، مثلاً، إلى سباق الانتخابات بين حزبين مهيمنين في الولايات المتحدة يتبادلان الحكم؛ يلحظ أن قاعدة العدالة غير مطبقة تماماً عندهم من عدم تكافؤ الفرص وهيمنة النفوذ ورأس المال الذي يُرجّح كفة حزبين مهيمنين على مدار أكثر من قرنين في الحياة السياسية الأميركية. ولو اقتصرت هنا الديموقراطية في الولايات المتحدة على صندوق الانتخاب فقط لما وجدت في اليوم التالي في حالة فوز متطرف أو متشدد على شاكلة الرئيس الحالي، إلا أن أميركا قبل أن تكون صندوق انتخاب هي دولة المؤسسات التي تحكم. فالذي يأتى بالصندوق لا يمكن أن يخرج عن قوانينها. هو فقط مجرد رمز أو قائد حافلة يحاول أن يُسيّرها في الطريق ليصل إلى بر الأمان بأقل الأضرار. ومن هنا يأتي الفهم الخاطئ والفجوة في التوقعات لإدراك وتكيف الديموقراطية في مجتمعاتنا بكونها هي صندوق الانتخابات وحكم الشعب. وهذه مقولة حق يُراد بها باطل. فماذا تعني الديموقراطية في مجتمعات تتسيّد فيها قيم سلبية كثيرة، وتهيمن عليها علاقات اجتماعية تميل إلى الطائفية والإثنية. غير أن مَن يفوز سيأتي ليقهر مَن تغلّب عليهم في هذه الصناديق نظراً إلى غياب البنية التحتية لمنظومتها والتي تترجم في شكل مؤسسات ودولة قانون وليس مجتمع الشعب الذي يحكم كما هو سائد في عقلية الكثيرين. فالشعب كرأي عام قد يحاسب وينتقد مَن يحكمون ولكن فكرة أن تحكم المجاميع أثبتت فشلها ثورات الربيع العربي، فهي هنا كمن يُشيد بناءً في الهواء بغير قواعد وأعمدة تستند إليه. والسؤال: هل معنى ذلك أن الديموقراطية محرّمة في مجتمعاتنا؟ هي حتى الآن من أفضل الآليات للحكم، ولكن الخطأ يكمن في إساءة الفهم والاستخدام. فإذا كان هدفها تحقيق فكرة العدالة في الحكم بأكبر قدر ممكن، فيجب تحييد البشر بنوازعهم بقدر الإمكان والسيطرة على الجماهير. كان لا بد من المؤسسات مع حكم القانون. وبالتالي فإن الشق الأول منها هو بناء ووجود المؤسسات التي تتمّ فيها كوسيلة لممارسة الحكم، إذ لا يمكن أن تقام انتخابات في دولة بلا سلطات ومؤسسات للديموقراطية، فالنتيجة هي الحرب الأهلية، والأمثلة عندنا كثيرة، ومنها حالة العراق بكل ما تحمله من دلالات. أما الشق الثاني منها فهو صندوق الانتخاب الذي يعني أن الفائز فيها يعمل في إطار الدستور والقانون ولا يخرج عنهما وفي حالة حدوث ذلك يكون قد نقض العقد الذي بينه وبين مَن يحكمون ومِن ثم تحل الثورة عليه. ويمثل العام الذي حكم فيه «الإخوان» المجتمع المصري مثالاً صارخاً لذلك، عندما حصّن الرئيس الذي جاء بصندوق الانتخابات، محمد مرسي، قراراته وجعلها فوق الدستور، وهي للسخرية كانت تحت إشراف مكتب الإرشاد في شكل من الازدواجية المهيمنة على عقلية هذا التنظيم. ففكرة شرعية الصندوق ليست مطلقة بل مقيّدة بكونها إذا جاءت وأدّت إلى هدم فكرة المؤسسة وحكم القانون، تسقط شرعيتها. والسؤال: كيف نحافظ على الإثنين معاً، المؤسسية وشرعية الصندوق؟ إن المجتمعات التي تحكمها المطلقات الكبرى، ليس من السهولة أن تتواءم الفكرتان فيها بسهولة. فالعقلية هنا لا تقبل بغير المطلق الذي يحركها، سواء كان دينياً أو إثنياً. وبالتالي، فإن مَن هم خارج الطائفة الفائزة، إما يُخضعون بالإكراه أو يُقتلون، ويصبح مفهوم الديموقراطية المتعلق بأنها حكم الشعب خادعاً لكونه يتحوّل من حكم الشعب إلى حكم الأقلية التي تؤمن بالمطلق أياً كان الشكل الذي يأخذه. ومن هنا تأتي أهمية فكرة تحييد البشر في شكل وجود المؤسسات وفكرة القانون، أياً كان هؤلاء الذين يحكمون. وانتشار هذه الثقافة بشقها السلوكي لم يأت فجأة في البيئات التي تحكمها الديموقراطية، وإنما أخذ عقوداً طويلة ليُسلِّم البشر إرادتهم وعقولهم ليس للمطلق الذي في رؤوسهم وإنما لثقافة المؤسسات وحكم القانون. لذلك فالديموقراطية ليست حكم الصندوق أو الشعب، وإنما هي حكم هذه المؤسسات بالأساس عندما تتعمق وتصبح ثقافة لها احترامها وتقاليدها بين الناس. وهذا يقودنا إلى جملة من الحقائق أبرزها أن الوطن وما يرتبط به من مؤسسات ما هو إلا كيان سابق عن أي نوع من الحكم الذي قد يتنوع بين ملكي وجمهوري وبأي طريقة كانت ديكتاتورية أو ديموقراطية. ووجود هذه الأشكال للحكم ما هو إلا طريقة للتهذيب والنهضة لمفهوم الدولة، عكس ما نشهده الآن من تحول الديموقراطية وسيلة للحكم من بين وسائل أخرى كهدف وذريعة لتفتيت المجتمعات. * كاتب مصري
مشاركة :