كثيراً ما تكون المرأة العربية محطّ نقاشات المجتمعات الغربية عند الحديث عن العرب ولما وصلوا إليه من تخلف وانحدار، فتتركز انتقاداتهم للعرب بشأن انحدار حقوق المرأة على ثلاثة محاور هي: انحدار حقوق المرأة فى العمل، والتعليم، والممارسات السياسية، أو على الأقل حسب منظمة Freedom House، وعادة ما يُنسب ذلك الانحدار إلى وصايا الدين التى -من المفترض- قيد بها الإسلام المرأة، وأحياناً ما يُصدق البعض من المنسوبين للعرب على تلك الادعاءات حينما يمشي بين الناس متباهياً بضرب زوجته! حقيقةً ذلك المقال -عزيزي القارئ- لم يخصص لإثبات أن الدين الإسلامي قد أعطى للمرأة رفعة ومكانة عليا، والتي لا تسَعُها حروف ذلك المقال؛ لأنه بالفعل ورد من الله تعالى الأمر الظاهر الجليّ بحسن الاستخلاف والعمل والتعمير في الأرض، إضافةً إلى الأمر بتحصيل العلم، ذلك كله على قدم المساواة بين الرجل والمرأة. وقد وردت العديد من المواقف في سيرة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - التي أعطى فيها للمرأة دورها في المشاركة السياسية بأمر من الله بالشورى، في حُلة الديمقراطية الإسلامية، وقد بدا ذلك جلياً في مشورة أم سلمة في صُلح الحديبية، فأصبح بيناً أن الإسلام لم يفرق قط على أساس الجنس في مثل تلك مسائل، والتي تخص دور المرأة في المشاركة المجتمعية. ولكن.. إن لم تكن وصايا الدين هي المحرك لذلك الواقع المرير الذي نراه من تهميش للمرأة في مجتمعاتنا العربية، وهذا ليس تعميماً ولكنه إقرار بواقع موجود، فما ذلك الشبح الذي استطاع أن يكتب سطوراً من الألم، ويجسّد قصصاً من المعاناة؟! العادات والتقاليد.. هي ذلك الشبح الذي يتمسك بالبقاء، ربما يستتر لوهلة ولكنه يعود أقوى ليواجه ويتصدى من جديد. ولكن ذلك الشبح الذي يتخفى من الناس، لا يستطيع فعل ذلك مع العلم. ذلك العلم الذي يقدس منهجية الشك، ويُجرم الإيمان بالمسلمات. فبدأ في البحث وراء بداية تلك العادات، وعلى أي أساس قد ارتكزت؛ لنجد أنفسنا أمام تقسيم الأنثروبولوجيا - علوم الإنسان - مراحل التطور البشري إلى أربع مراحل فهي - كما رتّبها الدكتور شريف عرفة في كتابه إنسان بعد التحديث:مرحلة إنسان الغاب، إنسان القبيلة، الإنسان المستقل، ثم المستنير، والتي استند فيها على منهاج أن العقل البشري - من المفترض - أن يميل لتحقيق الكمال. تلك المراحل من التطور ليست مراحل لتطور الإنسان عبر التاريخ، بل مراحل لتطور عقل كل فرد خلال فترات حياته، فكانت كل مرحلة تتجه إلي تعديل سمات ما قبلها، حتى يحقق العقل البشري التطور، ويصل لكماله الصعب المنشود، فمنا مَن يتابع ويتقدم ليصل للمرحلة التي تليها، ومنا مَن يتعطل فيظل عند مرحلة معينة. ومع الفحص الشديد لكل مرحلة نحتاج أن نتوقف لحظات مع إنسان القبيلة، الذي يؤمن بالسلطة الأبوية، فهو ذكوري متسلط ممتثل للقواعد والأعراف بشكل مخيف بل وأكثر من ذلك، فهو يرى أن جماعته هم العلية من القوم وما غيرهم فهم الغوغاء، فتلك العنصرية كانت من أهم سماته؛ حيث كان يحكم على الناس حسب ما ينتسبون إليه. وما هو يبدو واضحاً لنا أن إنسان القبيلة ذلك متفشّ فى أمتنا العربية، فبين إنسان القبيلة وشريحة كبيرة من أمتنا العربية العديد من القواسم المشتركة. ولكن لنفهم كيف نما ذلك الفكر القبلي علينا الاطلاع - ولو قليلاً - على حياة إنسان القبيلة. بدايةً تَشكّل القبيلة - في بداية عصر الهولوسين؛ حيث كان الإنتاج والاقتصاد هما الحياة - رافقته سيطرة ونفوذ للمرأة لما تملكه من مهارات إدارية، والقيام بمهام يعجز عنها الرجل، مُسطّرةً المرأة سطوراً من التناغم الإنتاجي في أبهى عصور التجمع الأمومي - وهو مجتمع تقدس فيه المرأة لدرجة أن الابن ينسب لأمه ولا يعرف أباه في وسط بلبلة جنسية - ولكن سرعان ما تبدل الحال لتنتفض الذكورية في حُلة التجمع الأبوي - وهو الذي يؤمن بالسلطة الأبوية والنظام في علاقة العشير - مع ثورة التطور في الإنتاج وإحلال الرجل نفسه في مواضع المرأة الإنتاجية لتمتلك عندئذ المرأة دوراً أقل من ثانوي، بل وصل انحطاط قيمة المرأة المجتمعية، كما ورد في كتاب "História da antiguidade oriental " الحضارات القديمة، إلى شراء الخطيبة من أبيها. من بعدها وأصبحت المرأة تعاني التهميش والانحدار في الحقوق ويتضح ذلك جداً عند ولادة الملكية الخاصة؛ لتصبح المرأة هي ملاذ الرجل الجنسي الذي يلجأ إليه لإفراغ تلك الشهوة وحسب؛ لتتطور القبيلة في ذاتها، وتزداد سماتها التي تمتلكها فبدأت بالذكورية، ثم الالتزام بالأعراف والقواعد، ثم العنصرية والتسلط. وبالطبع تطور إنسان القبيلة، الذي تجنب عبثية إنسان الغاب؛ ليجد نفسه على أعتاب إنشاء الدولة بعد مرحلة الديمقراطية العسكرية؛ ليصل لمرحلة الإنسان المستقل والذي يؤمن بالحرية والتفرد، وبعده الإنسان المستنير الذي يصل لدرجة عالية من درجات الكمال. وما هو يبدو واضحاً أن أمتنا العربية تعاني من مثل ذلك تعطّل، وتوقفت عند إنسان القبيلة، وهذا ليس تحاملاً ولكن رؤية واقع تصبح فيه المرأة في بعض المناطق العربية عار، بيد أن ذلك ليس وليد يوم أو شهر، بل هو وليد دهور مديدة، وشهورٌ عديدة، ليعود بنا التاريخ للمجتمع القَبلي الجاهلي، والذي كان عبارة عن منحدر من ذلك المجتمع القبلي البدائي الذي ذكرناه، في أحلك العصور على الأسرة، والتي كانت أشبه بالبيت المُتداعية أركانه، أو النبات المكسورة أغصانه، فجاء الإسلام في ظلمة القبيلة التي عاثت في العقول البشرية بأسلحتها المتمثلة في العنصرية والتمسك بالتقاليد على خطئها، محاولاً إرساء مبادئ مجتمعية تعزز مكانة مؤسسة الأسرة معتبراً إياها أولى مؤسسات المجتمع المدني والتي تُبنى عليها الأمم، مقدساً مكانة المرأة علماً منه بأنه لا يرقى المجتمع إلا وفقط عندما ترقى مكانة المرأة. وقد أكد ابن رشد -ذلك المفكر الإسلامي القدير- في العديد من كتاباته وخطاباته عن المرأة وحريتها على أن سبب تراجع أمتنا العربية آنذاك -والذي لا يقارن بتراجعها الآن- هو انحدار قيمة المرأة في المجتمع، فقد ذكر في كتابه الضروري في السياسة أن النساء والرجال نوع واحد، وأن لا فرقَ بين الرجل والمرأة في الغاية الإنسانية. والفرق الوحيد الذي يراه هو في احتمال الكدّ الجسدي الذي يَقدر الرجل عليه أكثر من المرأة، فيما أن النساء أكثر حذقاً في أعمال أخرى، كفن الموسيقى. وبما أنه لا فرق بين المرأة والرجل في الطبع الإنساني، وجب على النساء أن ينلن التربية نفسها التي يحظى بها الرجال، وأن يشاركنهم سائر الأعمال، حتى الحرب والرئاسة. لنعلم أنه بالرغم من التطور التكنولوجي والثورة المعلوماتية، فإن النظام القبلي ما زال موجوداً بل وفي تزايُد في صورة القبيلة الفكرية التي تعتبر نواة الفكر المتطرف، والتي لا تفرق بين شرقي وغربي، فهي داء يلزم استئصاله، فإن لم نفطن له قد تكون العواقب وخيمة. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر ش تحرير الموقع.
مشاركة :