قد يظن ظان أن كثرة العلم ترسي صاحبها على الحقيقة المطلقة، وأن التعصب لما يعلمه سيكون منهاجه في الحياة، فلا يقبل من العلم الآخر ما يخالفه، فلا يلبث كثيرًا حتى يأتي بالأدلة العقلية والنقلية كيما يخطئ ما خالف علمه. لن يفعل ذلك المتعلم الذي تشبع من العلم أو كاد، فعقله لا يأمره بأن يخالف المستجد من المحدثات التي لم يألفها من قبل، إذ إن عقله - عندئذ - يكون كما الطائر الجوال السابح بين الحقيقة والخيال، فكم من خيال بالأمس أصبح اليوم حقيقة، وهذا ما يمتاز كثير العلم به عن غيره. إنك إن لقيت ذا تعصب لفكرة، أو مخالفًا لمستجد؛ فاعلم أنه مفلس من العلم، وما يحمله في عقله بنوعيه الظاهر والباطن ليس إلا خواء وليس بعلم، فلن يدحض خصمه بعقله ذاك، وإنما قد يطمئن إلى نفسه حين يرفع عقيرته في الجدال، فيوهم نفسه أنه قد اطمأن إلى ظاهرته الصوتية، بيْنما هو في غرور لم يعرف نفسه بعد، وحسب المرء أن يعرف نفسه، فذاك غاية الحكمة. إنه ليحززني - كثيرًا - من بالغ في حماسه ليبرهن على أمر قد ظهرت فيه شائبة من شك، فلا يلتفت إلى الصوت الآخر، ولا يعيره أدنى اهتمام إلا اهتمام التفكير الملح في كيفية التغلب عليه، وما علم أن من الخير للمرء أن يكون كثير الإنصات قليل التحدث، فالأذنان تغلبان اللسان عددًا، فكم من مغمور قد صنعه خصومه، ليس من باب النقد والتشهير، وإنما في الأخذ عنهم حين يبينون له الأخطاء، فيبذُّهم في التعلم منهم، بينما يخسرون هم من كثرة إنصاته. إن للمدنية عيوبًا كما للتوحش، وقد تلبس الحياة الاجتماعية لبوس الأُميِّ علمًا اجتماعيًّا لا بأس به، وأضيق العيش حين يجتمع جهل وضيق أفق، فحين ذاك لا تنفع مدنية، ولا يردع توحش، وإنما الزَّبد والجُفاء، وما للحمق من دواء. حين يمتلئ العقل بالعلم ويتشبع، يبدأ العقل بمحاولة التمرد، والخروج على الأصول والفروع ليناغي ما وراءهما، فيندُّ عن العقل النادر والشاذ، ليحقق مقولة: ما زاد على الحاجة انقلب إلى المضادة. فإننا لنرى هذا في المفكرين والفلاسفة ومن لفَّ لفهم، بل يزهد المتخصص بعلم ما بتخصصه، ويأنف من الاشتغال فيما يتقنه، فيجاوزه إلى غيره، كذاك المهندس الذي هجر هندسته وتوغل في الأدب يسبر أغواره، وذاك الطبيب الذي راح يبدع في الرواية السردية كتابة، بينما هو منصرف عن تأليف كتاب واحد في تخصصه. إنه العقل الجوال الذي لا يعرف للتحيز طريقًا مسلوكة، ولا يعرف إلا التجوال قارًّا في نفسه، فإذا الحراك الحر المتبوع بالميول هو من يوجهه.
مشاركة :