يحدث أحياناً أن تتفوق الساحة التلفزيونية على طبيعتها المشهدية النابعة من المهنية، لتمنح لحظات فريدة يصنعها حضور غير منتظر. ذاك ما يمنحه مرور طفل موهبة اسمه حمزة لبيض كلما شارك في برنامج تلفزيوني، بعدما عرفه الجمهور في برنامج «ذا فويس كيدز» الذي فاز فيه أخيراً. هي ملحمة فنية ما زالت في عنفوانها الأول. بدأت الملحمة في بيروت في استوديوات شبكة «أم بي سي». في مرحلة التجريب والاختبار تبدت خامته الصوتية الخاصة ونبرته المميزة منذ أول وصلة غنائية أداها، والتي بعد متابعتها، تمنى كل من نانسي عجرم وتامر حسني وكاظم الساهر الفوز بتدريبه ومرافقته في مشوار التباري، فكان اختيار الطفل أن ذهب نحو المطرب العراقي. وتوالت اللحظات الموسيقية الغنائية الممتعة حتى كان الفوز باللقب لأحسن صوت لهذه الدورة. لكن الحق يقال، لم يكن نيل اللقب مهماً في حد ذاته على رغم أنه تتويج مستحق ولازم في هكذا مسابقات، فالدورات تتلاحق والبرامج المشابهة موجودة، وفي كل مرة تعتلي منصات التتويج مواهب قوية وصادحة تؤدي أغاني المشاهير في مجال الغناء العربي بإتقان وتمكن. لكن هذه المرة، بدت الموهبة معززة بشخصية غنائية مختلفة لا تشبه ما تقلد، وتوفر عفوية خاصة غير معهودة، أي أنها تتوافر على ما يرجو المطربون المكرسون الحصول عليها كما علق على ذلك كاظم الساهر. الأمر الذي يهب حمزة لبيض مثال العازف الذي يضيف للمقطوعة الموسيقية المعروفة تشخيصه الخاص به، معطياً لها آفاقاً جديدة. يبلغ العاشرة من عمره، لكنه تبدى حين يمسك الميكروفون ويقف وسط حلبة أو فوق كرسي كضيف في برنامج يصدح كأنه صاحب تجربة طربية دامت عقوداً. إنه حقاً استثناء. وقد تأكد الأمر مع استضافته في برامج تلفزيونية لبنانية ومغربية. هنا بدا بالعفوية ذاتها والارتياح في جو استوديو مخصص للحوار الثنائي الذي يمزج بين الخفية والتعريف بالضيف. وقد ظهر كأن لا شيء تغير بعد أضواء استوديوات «ذا فويس» الضخمة. أبهر حمزة لبيض بأدائه مضيفيه والعازفين، الأمر الذي حدا صاحب أحد البرامج إلى القول أنه من المدهش أن شخصاً يراقص ساقيه في كرسي في الأسفل بما أنه طفل، وحين تنظر إلى وجهه يطالعك صباح فخري من خلال الشدو العربي المتأصل! هذا الأخير الذي يشكل قدوته في الطرب فكان أن كلمه بالهاتف. والحق أن استغراب المنشط كان في محله، فكيف لطفل أن يختار لوناً طربياً لا ينتمي إلى سجل ما يسمعه الأطفال والشباب عادة. هذا ما أجاب عنه حمزة لبيض في برنامج «رشيد شو» على القناة المغربية الثانية. فأبان عن عفوية طفولية بريئة، وقدرة خارقة على الغناء. ظهر وقال أن والده اقترح عليه الاستماع لهذا النوع، فوجد فيه ضالته و «ارتَحْتُ فيه» كما باح، كما لو تعلق الأمر بلعبة ما ضمن لعب أخرى، وليس الفن الأصعب على الإطلاق الذي يتطلب الصوت والمهارة وشجاعة مواجهة جمهور معاً. وبهذا التصريح يجعلنا الطفل حمزة نستجلي من جديد قوة الفن الخالد الأصيل المتفرد الذي يجمع بين الكلمة الشعرية واللحن القوي، ذاك الذي يتأتى من العصور الذهبية، وهو ما يعاكس في الوقت ذاته سطحية ما يشاع من غناء اصطلح على تسميته بالخفيف أو الشبابي. وأن يقدم هذا الدرس البليغ موهبة طفولية بكل أريحية لأمر وجب الاستنارة به مستقبلاً، بخاصة عندما غنى رائعة سعاد محمد «وحشتني» بتلك الطريقة الممتعة محيياً إياها من دائرة النسيان، ناهيك عن غنائه لـ «حب إيه « لسيدة الطرب أم كلثوم. لا، لا يتعلق الأمر هنا بموهبة أخرى جاد بها وجود ظروف اعتناء وتدريب وصورة مُساعدة كما يحب التلفزيون أن يستقدمها في برامجه الترفيهية، بل هي موهبة بطابع خاص، ولا يخفي كاتب هذا المقال بأنه لا يمل من إعادة سماع الوصلات طالما أن المتعة حاضرة في كل مرة. الجميل أن حمزة لبيض يفكر في الدراسة أولاً وقبل كل شيء كما باح في حواراته، ولا يطمح سوى في أن يصير طبيباً بيطرياً هو الذي يملك تسع قطط في منزله المريح. يا له من درس ثان.
مشاركة :