أبدت مرافقتي السورية الشابة اندهاشها، عندما أجهشت بالبكاء وأنا أتجول معها للمرة الأولى في «سوق الحميدية» أحد أسواق دمشق الشعبية. كان الزمن في أعقاب خروج المقاومة الفلسطينية من لبنان، واستقرار بعض فصائلها في سوريا، وكانت تلك زيارتي الأولى لدمشق، لكنها لم تكن الأخيرة، مكلفة من قبل الصحيفة التي أعمل بها بلقاء فصائل المقاومة الفلسطينية والتعرف على خططها المستقبلية، وغير ذلك من الأمور التي ارتبطت برحيلها من بيروت وتشتت قواها بين اليمن وتونس والجزائر وسوريا بطبيعة الحال، بعد الحصار الإسرائيلي للعاصمة اللبنانية. وما إن ألقيت بحقيبتي في الفندق الذي نزلت به، حتى طلبت قبل أي شيء آخر زيارة سوق الحميدية الذي ارتبط في ذكريات طفولتي بقيام الوحدة بين مصر وسوريا، وبأغنية صباح الشهيرة «من الموسكي لسوق الحميدية أنا عارفة السكة لوحدية». وما إن بدأت جولتي في السوق، حتى جاشت مشاعري وخذلتني دموعي تأثراً بذكرى أيام مجد زائل. فإعلان الوحدة حفر في ذاكرة ووجدان جيلي صوراً وكلمات لا تنمحي، بينها صورة جمال عبد الناصر وشكري القوتلي متشابكا اليدين والسعادة تغمر وجهيهما، وبينها وصف شكري القوتلي ليوم إعلان الوحدة وصوته يتهدج ويرتعش تأثراً بأنه «يوم من أيام العمر» وبينها أغنية محمد قنديل الشهيرة وحدة ما يغلبها غلاب، وعلى الوحدة ما شاء الله التي شدت بها فايدة كامل، وأغنية نجاح سلام الظريفة «بدي عريس أسمر عربي شرط شرط، شرط من المتحدة طلبي شرط شرط»، وغيرها من الأغاني التي ُطمرت في أرشيف الإذاعات العربية. ففي يوم 23 فبراير 1958 تم الإعلان عن نتيجة الاستفتاء الشعبي حيث أسفرت عن موافقة الشعبين المصري والسوري بنسبة 99%على إقامة دولة الوحدة، التي صار اسمها الجمهورية العربية المتحدة بإقليميها الشمالي في سوريا والجنوبي في مصر وعاصمتها القاهرة. ومن المفارقات اللافتة للنظر أنه بعد 42 شهراً من عمر الوحدة، قامت وحدات من الجيش السوري في 28 سبتمبر 1961، بالانقلاب عليها، وأجرت استفتاء شعبياً كذلك أعلنت فيه موافقة الشعب السوري على الانفصال بنسبة 99% أيضا لتستعيد سوريا اسمها وهو الجمهورية العربية السورية، فيما تمسك الرئيس جمال عبد الناصر بأن تحتفظ مصر باسم الجمهورية العربية المتحدة لتظل «رافعة علمها، مرددة نشيدها» كما قال، على أمل هزيمة القوى الانفصالية، وإعادة دولة الوحدة مرة أخرى، لكن جرحين غائرين عميقين عجلا برحيله قبل أن يتحقق أمله، الانفصال وهزيمة 1967. وبعد رحيله بنحو عام استجاب الرئيس السادات في أواخر عام 1971 لدعوات بعض الكتاب والمفكرين، وقرر أن تستعيد مصر اسمها لتصبح بذلك جمهورية مصر العربية. وقبل أيام مرت الذكرى الستون للوحدة المصرية –السورية دون أن تثير حماس كثيرين للاحتفال بها، اللهم بعض المقالات المتناثرة هنا وهناك للتذكير بوقائعها والبحث في أسباب انهيارها، والتعلم من دروسها، لاسيما أن الرئيس عبد الناصر نفسه قال في أعقاب الانفصال: «يجب علينا أن نكون قادرين دائما على الاعتراف بأخطائنا». ولعله يكون في القلب من تلك الأخطاء عدم الإدراك الكافي للاختلاف الجوهري للنظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية بين البلدين وللمشاكل النوعية التي خلفتها لهما ظروف التجزئة والاستعمار، وجاءت الوحدة لتقفز فوقها وتتجاهلها. وقبل هذا وبعده عدم التفات القيادة المصرية لكافة الاقتراحات المحلية والدولية بجعل الوحدة كونفدرالية أو فيدرالية لفترة انتقالية محددة، يتمتع كل إقليم خلالها بقدر من الاستقلالية تراعي ظروفه الداخلية وتنوعه واختلافاته، وتأجيل فكرة الوحدة الاندماجية حتى تتوفر شروطها وتنتفي المشاكل التي تعترضها. وربما يعود السبب لفتور الاحتفال بتلك المناسبة إلى أن الاحتفال بما هو حدث مفرح، لم يعد أصلاً من تقاليد الزمن العربي الراهن، الذي تغشاه الأحزان والانقسام والتشظي، ونشيع فيه شهداءنا العرب كل يوم في العراق وسوريا واليمن وليبيا ومصر. ولأننا بتنا في واقع كهذا نتأرجح بين لحظات الأمل واليأس فربما لم نعد نحلم بالوحدة العربية، لكن بأن تبقى الدولة الوطنية القطرية قائمة داخل حدودها الموروثة دون تقسيم، وأن تعلو رايات المواطنة شرائعها وقوانينها، بدلاً من صراع الطوائف والمذاهب والملل والنحل الذي بات يهدد سلمها الاجتماعي واستقرارها، وأن يغدو الإيمان في داخلها شأناً خاصاً بين المواطن العربي وربه، لا علاقة له بالمجال العام، وأن يصبح فيها هذا المواطن شريكاً في السياسات التي تقود حاضره وتصنع مستقبله، وأن تسقط فيها كل الأغلال التي تعوق تعبيره عن رأيه وتصون حرياته السياسية والديموقراطية، وحين يأتي ذلك اليوم سوف يغدو حقاً يوماً من أيام العمر، ولأنه لا يأس مع الحياة فالمجد للأحلام بمقدم تلك الأيام.
مشاركة :