"لا أعتقد أنّه سيأتي رئيس لمصر وعليه فيتو أميركي ولا اعتراض إسرائيلي للأسف، فأميركا وإسرائيل ستفتحان الأبواب أو تغلقانها". كان هذا تصريحاً لافتاً للدبلوماسي المخضرم مصطفى الفقي، قُبَيل ثورة يناير/كانون الثاني وفي خضم الجدل الدائر حول معضلة الخلافة السياسية في نهاية حقبة مبارك، مؤصّلاً لقاعدة هامة في أصول الحكم في مصر بعيداً عن نشاز يناير/كانون الثاني الذي ما لبث أن انتهى سريعاً. مع قرب الانتخابات الرئاسية في مصر المزمع إقامتها في مارس/آذار من العام الجاري يبدو البعض متعجباً من الإخراج الخشن للمشهد الانتخابي من أجهزة الدولة مع عصف النظام بجميع المرشحين، بمن فيهم رجل العسكرية القوي "سامي عنان"، إلا أنّ السيسي يبدو فطناً وملمّاً بقواعد الحكم في مصر وهو يعلم أنّه إذا ما أردت مكوثاً في الحكم فما عليك سوى دعم خارجي وقمع داخلي لا سيما مع خفوت الإرادة الشعبية والتي من شأنها أن تُحدث الفارق، وأقصد بالدعم الخارجي هنا ذاك القادم من واشنطن، والقمع الداخلي التي تتكفل به المؤسسات الأمنية. أميركا والنظام السياسي المصري.. البراغماتية تنتصر دائماً في كتابه "أميركا الضاحكة" يفسر مصطفى أمين سرّ تحالف أميركا مع الديكتاتوريين قائلاً: "من السهل أن تتعامل مع الحاكم الفرد، ومن الصعب أن تتعامل مع الدول الديمقراطية؛ حيث تقضي أميركا سنوات مع الدول الديمقراطية في مباحثات بينما تصل لنفس الاتفاق مع الحاكم الفرد في بضع دقائق". يمكن التأصيل تاريخياً للنفوذ الأميركي في القرار السياسي المصري في أعقاب حرب أكتوبر/تشرين الأول لكن العلاقات لم تتطور إلا بعد اندلاع الثورة الإيرانية؛ حيث كانت طهران هي محور الاهتمام الأميركي في الشرق الأوسط، لا سيما بعد الانسحاب البريطاني من الخليج العربي في عام 1971. ويتمثل الدعم الأميركي للنظام الحاكم في مصر في أربعة مجالات هي: "الدفاع الوطني، وتحصين النظام من الانقلاب العسكري، واستقرار الاقتصاد، والقمع الداخلي"، وفقاً لما ذكره الباحث جايسون براونلي في كتابه المهم "إجهاض الديمقراطية.. الحصاد المر للعلاقات المصرية - الأميركية". حيث يتجلى التعاون المصري - الأميركي في ثلاثة محاور رئيسية، أولها التعاون العسكري؛ حيث تقدم واشنطن مساعدات عسكرية ضخمة للقاهرة منذ كامب ديفيد مقابل حصول الولايات المتحدة على مزايا عسكرية ولوجيستية كاستخدام الأجواء المصرية والمرور التفضيلي في قناة السويس، ويمثل التعاون المخابراتي المحور الثاني، لا سيما بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول، فيما ارتبط المحور الثالث بفكرة الأمن الإقليمي - أمن إسرائيل على وجه الدقة - ومدى قدرة النظام المصري على دعم ما يعرف بمحور الاعتدال الضامن لمصالح واشنطن في المنطقة. عمل الرئيس السادات على تدشين تحالف استراتيجي مع الولايات المتحدة انطلاقاً من أنّ أوراق اللعبة في يدها، ومبشرّاً الشعب المصري بسنوات من الرفاه سرعان ما أثبتت الأيام أنّها كانت محض سراب، منهياً عصره بالتوقيع على اتفاقية كامب ديفيد التي أخرجت مصر فعلياً من معادلة الصراع العربي - الإسرائيلي، منتهياً به الأمر مغتالاً على يد مجموعة من المسلحين. في عهد مبارك، تراوحت العلاقات صعوداً وهبوطاً في بداية عهده، إلا أنّه سرعان ما تطورت العلاقات في بداية التسعينيات مع حرب البلدين على الإرهاب؛ حيث انتقلت العلاقة من محمور الاستراتيجية إلى التبادل الاستخباراتي وهو ما تبلور في برنامج "التسليم الاستثنائي"، ولم تخلُ العلاقات من توترات لا سيما في عهد جورج بوش (الابن)؛ حيث تبنت إدارته الترويج للديمقراطية في الوطن العربي، الأمر الذي اعتبرته القاهرة محاولةً لتقويض النظام. مع هبوب رياح التغيير في مصر في العام 2011 ترددت إدارة إدارة أوباما في بادئ الأمر، إلاّ أنّها سرعان ما انحازت لتطلعات الشعب المصري؛ حيث لعبت طبيعة القوى السياسية التي تشكلت بعد الثورة -لا سيما التيار الديني- في نشوء تيارَين متجادلَين داخل الإدارة الأميركية: الأول ينصح بفتح حوار، والآخر يحذر من مغبّة ذلك، بيد أنّ العلاقة لم تخلُ من توترات مع المجلس العسكري بلغت ذروتها في أعقاب اقتحام السفارة الإسرائيلية في سبتمبر/أيلول 2011 وأزمة منظمات المجتمع المدني. مع فوز الدكتور مرسي -المحسوب على جماعة الإخوان- بأول انتخابات تعددية في مصر، بات لزاماً على واشنطن التعامل مع جماعة الإخوان؛ حيث انطوت العلاقة بينهما على دلالات هامة تمثلت في "تبنّي الجماعة خطاباً براغماتياً يتماهى مع ما تريده الولايات المتحدة من الإسلاميين، لا سيما فيما يتعلق بالالتزام باتفاقية كامب ديفيد والقبول بمخرجات العملية الديمقراطية والتعددية السياسية، إلا أنّ واقعة اقتحام السفارة الأميركية في سبتمبر/أيلول 2012 على خلفية فيلم مسيء للرسول -ص لى الله عليه وسلم- والإعلان الدستوري المثير للجدل عجَّلا بتوتر في العلاقة، ما حدا بالرئيس الأميركي آنذاك باراك أوباما للتصريح بأنّ النظام المصري ليس حليفاً ولا عدواً. بعد انقلاب الثالث من يوليو/تموز، وعلى الرغم من الانتقاد الظاهر لتحرّك الجيش، فإنّ العلاقة بين الإدارة الأميركية والنظام العسكري لم تصل لحد القطيعة، لا سيما مع استدعاء موقف المملكة السعودية وإسرائيل الداعمتين لخطوات النظام بعد الثالث من يوليو/تموز، فضلاً عن العلاقات الوثيقة التي تجمع بين البنتاغون وقيادات العسكرية المصرية، لا سيما مع ممن تلقى تعليمه في أميركا، وعلى رأسهم وزير الدفاع آنذاك عبدالفتاح السيسي؛ حيث كانت مصر هي الدولة الوحيدة التي تمتلك تواصلاً منتظماً مع وزير الدفاع في إدارة أوباما (تشاك هيغل)، شمل ما يقرب من ثلاثين مكالمة، منها عشر مكالمات في الأسبوع اللاحق للانقلاب، ثم تطورت الشراكة السياسية بين النظامين مع قدوم ترامب الذي وجد في النظام العسكري المصري فرصة للولوج إلى مآربه في المنطقة، لا سيما فيما يتعلق بما بات يعرف بصفقة القرن. السيسي والمؤسسة العسكرية.. ذهب المعز وسيفه يدرك السيسي منذ الوهلة الأولى أنّه قام بانقلاب عسكري بكل ما يحمله الأمر من توجّس في الدائرة المحيطة، وإن كانوا شركاءه في الانقلاب حتى وإن ارتبط معهم بعلاقات عائلية واجتماعية؛ حيث تبنّى السيسي عدة وسائل لتأميم المؤسسة العسكرية ممثلةً في الآتي:1- القوانين العسكرية حيث قام السيسي بإدخال بعض التعديلات في قانون الأحكام العسكرية وإصدار قوانين جديدة في إطار محاولاته لبسط نفوذه على الجيش، من بينها قوانين تتعلق بشروط الخدمة والترقية العسكرية، وقوانين تتعلق بتنظيم وتحديد اختصاصات اللجان القضائية للضباط، وأخرى تتعلق بشأن القيادة والسيطرة على شؤون الدفاع وغيرها. 2- إغداق الأموال حيث تأتي تلك الخطوة على رأس محاولات السيسي للسيطرة على الجيش ضماناً للولاء، وإن لم يقابل ذلك تحسّن في الكفاءة العسكرية، فالزيادة في رواتب العسكريين لم تنقطع لتصل إلى ست زيادات في فترات متقاربة؛ حيث تتمثل تلك الزيادات في منح معاشات استثنائية للضباط والجنود، ليس هذا فحسب، بل تجاوز الأمر فكرة الامتيازات المادية إلى تخصيص الأراضي وإسناد مشروعات بالأمر المباشر، وتَغَوّل الهيئة الهندسية، ما حدا بالقطاع الخاص للتبرم باعتبار أن خطوات كتلك من شأنها أن تعصف بالتنافسية. 3- سيطرة المقربين حيث عمل السيسي على تسكين أشد المقربين له في المواقع الحساسة، وهو ما تجلّى مؤخراً في الإطاحة برئيس المخابرات العامة وتعيين رجله الوفيّ عباس كامل رئيساً لها، فيما اعتبره مراقبون فضاً للاشتباك بين المخابرات الحربية ونظيرتها العامة، والذي يحمل في عمقه نصراً للسيسي. 4- زيادة وتيرة التغيير داخل الجيش حيث من الملاحظ أن دورة حياة قيادات الجيش لا تكتمل في عهد السيسي؛ حيث أعفى السيسي نحو 16 قيادة عسكرية من أصل 25 منذ الثلاثين من يونيو/حزيران 2014 لعلّ أبرزها الإطاحة برئيس الأركان وصهره محمود حجازي على خلفية الإخفاق الأمني في حادثة الواحات، فضلاً عن اعتقال العقيد قنصوة، على خلفية ترشحه لانتخابات الرئاسة، وتوقيفات أخرى لبعض ممن يُشك في ولائهم. حيث يهدف السيسي من وتيرة التغييرات تلك إلى الحيلولة دون اكتساب أية قيادة عسكرية شعبية أو علاقات واسعة داخل الجيش. عن المستقبل: ربما رسم المقال صورةً قاتمةً للمستقبل، وبقدر التشاؤم بقدر التفاؤل بأن الانسداد السياسي الحالي ربما يُبرز تياراً سياسياً جامعاً يستثمر في الوعي الجمعي الشعبي الذي ما إن استيقظ استجاب القدر. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست عربي لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :