بحضور عدد من رؤساء دول ووزراء دفاع وداخلية وخارجية وشخصيات عالمية عقد مؤتمر ميونخ للأمن في الفترة من 16-18 فبراير 2018، حيث ألقى أمير قطر الشيخ «تميم بن حمد» خطابًا سار فيه على نفس النهج الذي اتبعه، بعد قطع الدول الأربع علاقاتها الدبلوماسية مع قطر في يونيو 2017 بسبب قيامها «قطر» بممارسات تتعارض وأمن واستقرار هذه الدول وتدخلاتها في شؤونها الداخلية- لجهة انتقاد دول المقاطعة، وادعاء المظلومية، بزعم أن الدوحة تعرضت لما اسماه بـ«العدوان» ممن وصفهم بـ«الجيران الطامعين» في بلاده، وهنا ينطبق المثل الذي يقول «ضربني وبكى وسبقني واشتكى»، ولا أعتقد أن ما عنده من خير أكثر مما عندهم والحمد لله، كما اتهمهم بمحاولة انتهاك سيادة قطر واستقلالها والعكس هو الصحيح. وبعيدًا عن هذا وذاك، فإنه بقراءة خطاب الأمير «تميم» نجد أنه جمع بين ثنائية وهي التناقض والاستجداء: التناقض بين الأقوال والأفعال على أرض الواقع، واستجداء الغرب في محاولة لكسب تعاطفه؛ ففي الوقت الذي اتهم فيه الدول المقاطعة بتقويض الأمن في المنطقة قائلاً: «أعتقد أنه آن الأوان لتحقيق الأمان الشامل لمنطقة الشرق الأوسط، وأن ننسى الماضي»؛ لأن «المخاطر كبيرة، والشرق الأوسط على حافة الهاوية، وحان الوقت لإبعاده عنها».. مع أن الوثائق والوقائع تتهم الدوحة بتمويل جماعات الإرهاب والتطرف وإيواء إرهابيين، وتأسيسها لأدوات عدم الاستقرار في المنطقة، ومنها: «جبهة النصرة»؛ «الجماعة الليبية المقاتلة»؛ تنظيم «الإخوان»؛ وتنظيمات «داعش» و«القاعدة» و«الحوثيين» في اليمن، وصولاً إلى «بوكو حرام» في غرب ووسط إفريقيا. وهنا أقول لسمو الأمير إن سياسات قطر تسببت في إزهاق أرواح عشرات الآلاف من البشر راحوا ضحية ممارسات هذه التنظيمات الإرهابية والتكفيرية المشار إليها. ويقول الأمير: «إنه لو كانت العلاقات الإقليمية تسترشد بمبادئ الحكم الرشيد لما تعرضت دول ذات موارد محدودة لابتزاز يملي عليها مقايضة سياستها الخارجية مقابل المساعدات».. قطر هي التي تعمل على استغلال الأزمات الإنسانية، التي تعانى منها بعض الدول الإفريقية، أو الاضطرابات السياسية والاقتصادية في البلدان العربية لتفرض إرادتها على هذه الدول؛ فعلى مدى العقدين الماضيين قامت الدوحة ببناء علاقات مع العديد من الدول الإفريقية، وخاصة ذوات مستوى الاستقرار المنخفض؛ أمنيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا، والتي يوجد بينها إشكاليات تاريخية وسياسية وحدودية، ما جعل من السهل اختراقها، وفرض مصالحها ومشاريعها عليها، الأمر الذي جعلها تتدخل في صراعات بين كل من «السودان وإريتريا»، و«الصومال وإثيوبيا»، و«إريتريا وجيبوتي».. في إصرار منها على انتهاج سياسة التدخل في شؤون أشقائها وجيرانها، وفي إصرار منها كذلك على ضرب نموذج للدولة الصغيرة المهيمنة. وكان لافتًا في خطاب الأمير أنه دافع فيه عن آيديولوجية التطرف، حينما دعا إلى ضرورة: «الفصل بين الآيديولوجيات المتطرفة والإرهاب العنيف»؛ معللاً ذلك بأن الأولى «موجودة في كل أنحاء العالم»، وأن السبب وراء الثانية -الإرهاب والعنف- هو: «غياب الاستقرار وعدم تلبية متطلبات الشعوب»، الأمر الذي رأى فيه البعض محاولة لتبسيط الأمور وتسطيحها، وفي الوقت نفسه دفاعًا مبطنًا عن الجماعات الإرهابية. فضلاً عن أنه تجاهل بشكل أساسي حين تحدث عن حقوق الشعوب- حقوق الشعب القطري الذي يحكم بقرارات فردية غير مدروسة، في ظل غياب المؤسسات الدستورية والرقابية. ففي الوقت الذي وصف فيه بلاده بأنها «كعبة المظلومين»، هناك نحو ستة آلاف مواطن قطري من قبيلة «الغفران» يقضون عامهم الـ15 دون هوية، منذ أن أُسقطت جنسيتهم عام 2003، الأمر الذي جعل «الفيدرالية العربية لحقوق الإنسان» تطالب «مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان» بأن يدرج قضيتهم على أجندته، وذلك في الوقت الذي فتحت فيه بلاده التجنيس أمام أشخاص يمثلون خطرًا على الدولة القطرية وعلى الدول الخليجية والعربية، فضلاً عن استمرارها في استغلال العمالة الوافدة بما في ذلك عمال المنازل والعاملون في مشاريع البناء وفق تقارير حقوقية دولية عديدة. وطالما أننا نتحدث عن الحريات، نذكر بتلك التهديدات التي أطلقها التلفزيون القطري في التاسع من أكتوبر 2017، باستخدام الأسلحة الكيماوية ضد من يخالف سياسة الدولة.. فهل يمكن أن يوصف كل ذلك بـ«الحكم الرشيد»؟! وكان مما جاء في خطاب الأمير فوق كل ما سبق عزفه على وتر السيادة وحرية الرأي والتعبير في بلاده، مشيرًا إلى «مخطط الدول الأربع لتقويضها»، بمطالبتهم إغلاق «قناة الجزيرة».. في حين أن الدول المقاطعة يعنيها بقاء قناة الجزيرة شريطة إيقاف بثّ الشائعات والفرقة والطائفية، وعدم التطاول على القيادات والرموز؛ فالجزيرة أداة إعلامية تتمحور تغطياتها حول نشر الآراء المثيرة وتسليط الضوء على الخلافات والنعرات الطائفية بشقيها السياسي والمذهبي، وصارت صوتًا للجماعات المعارضة المتطرفة والمتمردة، الأمر الذي أثر سلبًا على أمن واستقرار الدول الخليجية والعربية عامة.. والسؤال هنا هل حرية الرأي والتعبير هي التطاول على الدول والتدخل في شؤونها؟ وإذا افترضنا أن قناة الجزيرة وأذرعها هي «واحة الإعلام الحر».. فلماذا لا يكون الشأن القطري من أولويات القناة؟.. فمنذ نشأتها لم تقترب من الشأن الداخلي لقطر، رغم أن هناك الكثير من القضايا التي تستحق التطرق إليها؛ فمثلاً لم تتناول أوضاع الديمقراطية أو التجنيس أو العمالة الوافدة في قطر، أو غيرها من الموضوعات مثل الاستثمارات التي تتم بالبلايين من الدولارات من دون حسيب أو رقيب. ومن المفارقات في خطاب الأمير «تميم» دعوته دول العالم إلى الضغط على دول المنطقة للتوقيع على «اتفاقية أمنية في الشرق الأوسط» على غرار الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي يناقض بشكل صريح ممارسات الدوحة والاتهامات الموجهة إليها بضلوعها في دعم وتمويل الإرهاب، وإيوائها جماعات إرهابية وتدخلها في الشؤون الداخلية لجيرانها بشكل مباشر وغير مباشر.. ويناقض كذلك أيضًا سياسات الأمير في عدم الالتزام بالاتفاقات والمعاهدات، والشاهد على ذلك نقضه لتعهداته في اتفاق الرياض 2013 والاتفاق التكميلي عام 2014، وعدم التزامه بما نصت عليه. والمثير للدهشة ذلك التوافق بين الدوحة وطهران لجهة الممارسات التي من شأنها أن تهدد مستقبل مجلس التعاون، فبالتزامن مع الحملة الإعلامية القطرية الممنهجة على المجلس ودوره وفعاليته والذي وصفته بـ«الميت سريريًّا» خرج علينا السفير الإيراني السابق في الدوحة ليشير إلى أن قطر كانت تنوي الانسحاب من المجلس. والسؤال الآن، هو كيف تدعو قطر لمثل هذا التعاون والتنسيق، وسياستها الخارجية تؤلب دولاً ومنظمات ضد شقيقاتها من الدول العربية والخليجية؟! فإضافة إلى الممارسات القطرية الحالية ماذا عن مؤامرة الأمير الوالد الموثقة بالصوت والصورة على حياة العاهل السعودي الراحل الملك «عبدالله» -رحمه الله- بالتعاون مع «معمر القذافي» ومع المعارضة السعودية في الخارج؟ وكذلك التآمر على أمن واستقرار البحرين قبل وبعد فبراير 2011 بالتعاون مع المعارضة المدعومة من إيران ودعمها ماليًّا وإعلاميًّا وسياسيًّا.. فالمتعارف عليه أن أي منظومة يجب أن تكون أهدافها واحدة وسياساتها الخارجية على مستوى الثوابت واحدة أيضًا، وبالتالي لا يمكن أن تقوم دولة في منظومة ما بدعم قضية معينة تضر إحدى دول هذه المنظومة كما هو حال قطر مع دول مجلس التعاون ومصر ودول عربية أخرى. وبالعودة إلى خطاب الأمير «تميم» بمؤتمر ميونخ للأمن نجد أنه تحدث عن «السيادة والاستقلالية»؛ حيث ادعى أن تمسك بلاده بسيادتها كان سببًا في أزمتها مع الدول المقاطعة، مع أن العكس هو الصحيح في وقت نشهد فيه أن الدوحة استجلبت قوات تركية وإيرانية لحماية النظام؛ إذ سرعان ما فتحت أبوابها على مصارعها لتركيا وإيران، لتستقوي بهما على أشقائها.. فهل هذا هو ما تعنيه قطر بالسيادة والاستقلالية؟! في الوقت الذي تؤكد فيه الشواهد التاريخية أن خروج قوات الدولتين من قطر لن يكون بنفس سهولة دخولها، في ظل براجماتية هاتين الدولتين. وما يسترعي الانتباه حقا في هذه المسألة تكراره أكثر من خمس مرات كلمة «الحصار»، وأنه لن يعوق مسيرة قطر وشراكتها الدولية، وأن بلاده «باتت أكثر قوة من الماضي»، وهو ما رأى فيه البعض محاولة لاستجداء الدول الغربية للتعاطف معها، كما أنه يعكس نوعًا من عدم الاكتراث تجاه شكاوى أشقائها، وعدم الالتفات إلى عتبهم وربما غضبهم على سياساتها، وتأكيد أنها غير مهتمة أو ساعية إلى أي مصالحة.. لكن مادامت قطر باتت أكثر قوة؛ فلماذا هذه الخطابات المتتالية في كل محفل دولي، والإصرار على تبرير موقفها مرة تلو الأخرى، فيما أشارت مصادر إلى إنفاقها ما يقرب من 37 مليار ريال، من أجل تعويض حجم الخسائر، نتيجة المقاطعة العربية لها، وأكثر من 5 مليارات لتحسين صورتها أمام العالم، وللترويج بأن المقاطعة العربية هي حصار مفروض عليها، من خلال شركات علاقات عامة. وبعيدًا عن قاعة مؤتمر ميونخ، حاول وزير الخارجية القطري «محمد بن عبدالرحمن آل ثاني»، تسويق سياسات بلاده، في إطار حملة العلاقات العامة الدولية التي تقوم بها الدوحة، من خلال مقال كتبه بعنوان: «صراعات لا لزوم لها»، نشرته إحدى الصحف الألمانية على خلفية كلمة الأمير «تميم» في المؤتمر، أظهر فيه قطر على أنها مركز إقليمي ودولي لفض النزاعات والصراعات ووسيط نزيه في الكثير من القضايا! وفي حقيقة الأمر، لا نكاد نسمع عن نزاع في الشرق الأوسط خلال السنوات الأخيرة، إلا وسارعت قطر للدخول كوسيط فيه، وهذا موقف حسن وجيد نشجعه ونثني عليه، ولكن ثبت أن ذلك يأتي في إطار سعيها للبحث عن دور لها، ضمن محاولات الزعامة، التي تسعى إليها؛ لكن الواقع العملي يؤكد أن كل النزاعات التي تدخلت فيها، قد باءت بالفشل لعدم توافر مبادئ وشروط الوساطة، والتي أهمها الحياد وعدم الانحياز وغياب المصلحة. ففي دارفور، تم التوقيع على عدة اتفاقيات بين الحكومة السودانية والمتمردين، لكنها خرقت جميعًا بعد التوقيع بمدة قصيرة ليستأنف القتال.. ولعل الاتفاق بين جيبوتي وإريتريا دليل على عدم حيادية الوسطاء القطريين؛ إذ سارعت الدوحة إلى سحب قوات حفظ السلام بعد انضمام إريتريا إلى دول المقاطعة، فيما فشلت وساطتها في ليبيا مع استمرار دعم الدوحة للمليشيات الإرهابية هناك، أما في فلسطين فقد عمقت الدوحة الانقسام بين الفصائل الفلسطينية، بينما في اليمن أنقذت مليشيات الحوثي، وعرقلت جهود التحالف العربي لدعم الشرعية، بينما نجحت الوساطة القطرية بسوريا في إتمام صفقات التهجير الطائفي. ومن ثمّ، يمكن القول إن كل هذه الشواهد تدل على افتقاد الدوحة لصفة الحياد والنزاهة المفترضة في أي وساطة، كما أن طبيعة السياسة الخارجية القطرية، القائمة على عقدة الجغرافيا، بما تشمله من إشكاليات: الموقع، المساحة، عدد السكان، شكَّلت مجتمعة عامل ضغط على الطموح السياسي الذي رافق السلطة القطرية منذ منتصف التسعينيات، فضلاً عن محاولتها تقويض أدوار القوى المنافسة لها، وأبرزها الإمارات ومصر والسعودية، وهذا هو الفارق الجوهري بين الوساطات الكويتية والعمانية من جهة، ووساطات الدوحة من جهة أخرى. على العموم، جاءت كلمة الأمير «تميم» في مؤتمر ميونخ للأمن، عبارة عن جملة من التناقضات، ففي الوقت الذي قلل فيه من أثر المقاطعة الخليجية على بلاده، دعاهم إلى تناسي الماضي وفتح صفحة جديدة، وفي حين طالب بالاتفاق على «تحقيق الأمن الذي يسمح بتحقيق السلام والرخاء»، فإن الأدلة تثبت تورط الدوحة في تمويل ودعم الإرهاب في المنطقة.. وبينما أشار إلى ما قامت به الدول الأربع من إجراءات تطلق عليها «الحصار»، أكد أن بلاده أمنت طرق تجارة جديدة وواصلت إمداد العالم بشحنات الغاز الطبيعي، الأمر الذي ينفي وجود الحصار أصلاً؛ إذ لو كانت قطر تتعرض لحصار لما تمكنت من التصدير، وفي حين تحدث عن السيادة والاستقلالية، لا تزال القوات الإيرانية والتركية تنتهك الأراضي القطرية.. وغيرها من التناقضات التي طالما اتسمت بها السياسة القطرية منذ منتصف التسعينيات، ما يوحي بأن الخطاب يأتي في إطار تشويه الحقائق، فضلاً عن أنه يحمل رسالة مفادها عدم تراجع الدوحة عن سياستها تجاه شقيقاتها. وأختم بمخاطبة سمو الأمير «تميم بن حمد آل ثاني» أمير قطر قائلاً: «كل ما قامت به قطر خلال الفترة من عام 1995 حتى 2013 تجاه أشقائها مسؤولة عنه القيادة السابقة، ونعرف أن مفاصل الدولة كلها مازالت محكومة من قبلها، ونعرف أيضًا أن سموكم تريد أن تبقى إلى جانب إخوانك وأشقائك في دول مجلس التعاون الخليجي، بدليل اتصالكم هاتفيًّا بالأمير «محمد بن سلمان» ولي عهد السعودية يوم 8/9/2017؛ وأبديتم استعدادكم للحوار بشأن مطالب الدول المقاطعة، لكن تم نقض هذا الكلام في صبيحة اليوم التالي.. والدليل الآخر هو الاتفاق الذي وقعتم عليه عام 2013 وتكملته عام 2014 مع المرحوم الملك «عبدالله»، ثم تم نقضه مباشرة بعد وفاته، وأنه وفقًا لأحد المقربين من الأمير الوالد أنه قال إن الاتفاق مات بموت الملك «عبدالله». عزوتكم وقوتكم واستقلالكم وسيادتكم يا سمو الأمير هو الحضن الخليجي والعربي.. عودوا إليه.
مشاركة :