في لهجة استعلائية معهودة من قبلها، استمع العالم أجمع إلى مندوية الولايات المتحدة الأمريكية في الأمم المتحدة “نيكي هايلي” الذراع الأيديولوجي لليمين الأمريكي في المبنى الزجاجي، وهي تتحدث عما يطلق عليه “صفقة القرن”. السيدة “هايلي” وبفوقية امبراطورية تكاد تزف للعالم أن صياغة إتفاق سلام جديد بين الإسرائيليين والفلسطينيين توشك على النهاية، صياغة قطعًا لم يشارك فيها الفلسطينيون، وإنما جرت بحسب شهوات قلب واشنطن وبالتنسيق مع تل أبيب. تاريخيًا لم تكن الوساطة الأمريكية في الملف الفلسطيني الإسرائيلي ناجعة بالمرة، فالميل الأمريكي التقليدي يصب دائمًا وأبدًا في خانة إسرائيل، وغير عابئة سواء بالعدالة الدولية أو بالقرارات الصادرة عن الأمم المتحدة، ومتجاوزة لكل الشرائع والنواميس الربانية والوضعية. التجربة التاريخية للفلسطينيين أثبتت أن هناك أطرافًا أخرى يمكن أن يقدر لها لعب دور أكثر توازنًا في حسابات السلام، فلولا النصائح الفرنسية التي جرت بعيدًا عن أعين الأمريكيين أوائل التسعينات من القرن المنصرم لما توصل الطرفان معًا إلى إتفاق أوسلو، والذى كان صدمة للأمريكيين، فكيف يجري من وراء ظهر القطب المنفرد بمقدرات العالم حديث للسلام في الشرق الأوسط وهي المدعية بأن المنطقة موضع نفوذها منذ نهاية الحرب العالمية؟ خطاب “هايلي” في معهد السياسه بجامعة شيكاغو يحملنا على طرح العديد من الأسئلة، في المقدمة منها: “ما الذى يجعلها واثقة من أن الفلسطينيين سيقبلون بخطة أمريكية تفرض عليهم فرضًا وعلى أساس أنها ستشكل بالضرورة أرضية لاطلاق المفاوضات بحسب تعبيرها”.. فهل هذه خطة سلام أم وثيقة استسلام بحسب المعايير والشروط الأمريكية – الإسرائيلية؟ حديث “هايلي” يبين وكالمعتاد مقدار الازدواج الأخلاقي الأمريكي، وتكافؤ الأضداد في تلك الروح المضطربة، بمعني أنها تتشدق بالرغبة في التوصل إلى السلام، وفي الوقت عينه تنكر علي الفلسطينيين بطريق غير مباشر أقل حقوقهم في “دولة مستقلة” بحدود واضحة، لا تقل بوصة واحدة عن حدود الخامس من يونيو حزيران 1967. التلاعب بالكلمات هو ديدن “هايلي” كما من قبلها من مسؤولين أمريكيين كثر، سيما وقد ردت على سؤال حول ما إذا كانت خطة السلام الجديدة ستفضي إلى قيام دولة فلسطين المستقلة، بالقول: إن جميع المسائل المتعلقة بالترتيبات السياسية في المنطقة يعود إلى طرفي النزاع. يحق لنا أن نتساءل: “وما الذى تفعله واشنطن أو تقدمه كوسيط وضامن وهي تعلم الرفض الاسرائيلي المبطن تارة والمقنع تارة أخرى للدولة الفلسطينية؟ حديث “هايلي” هو حديث “الغرور الامبراطوري” عينه الذي يجعل منها ومن إدارة ترامب طرفًا مكروهًا دون مداراة أو مواراة، طرفًا يوجه الإهانات إلى سويداء القلب الفلسطيني والعربي، بل الإسلامي والمسيحي، حين تتحدث عن إشادتها بقرار الرئيس ترامب نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، واعتبار القدس الشرقية العربية تاريخيَا جزءًا من القدس الموحدة كعاصمة للدولة الاسرائيلية. ليس هذا فحسب، بل أنها تصف الزعماء الأمريكيين السابقين بالعجز عن اتخاذ القرار بسبب مخاوفهم – على حد تعبيرها – من أن السماء ستسقط في حال إقدامهم على هذه الخطوة”. أى مكابرة وتعالي في حديث “هايلي” وهي تتابع “السماء لا تزال في مكانها”، ما يجعلنا نفكر بصوت عال “هل كانت إدارة ترامب تتمني للفلسطينيين بداية ولعموم العرب والمسلمين تاليًا الوقوع في فخ العنف الدموى كردات فعل طبيعية على القرار، وساعتها ستجد ما تتذرع به أمام العالم من أن هولاء وأولئك كارهون للسلام وأعداء للسامية؟ السيدة “هايلي” هندية الأصل أمريكية الجنسية لا دالة لها على التاريخ ولا على الجغرافيا في الحال أو الاستقبال، وعليه فإن أحاديثها الجوفاء لم تعد تنطلي على أحد، مهما خيل إليها من أن إدارتها بلغت الفترة التي يمكن فيها إنطلاق المفاوضات بين الإسرائيليين والفلسطينين، فالطرف الأول وكما أعلن نتانياهو في جولاته الخارجية مؤخرًا قد اعتبر القدس مرة وإلى الأبد عاصمة موحدة لاسرائيل، وترفض اسرائيل أي حديث عن حق العودة لنحو 13 مليون لاجئ فلسطيني في اسرائيل والضفة الغربية والخارج، كما لا تتوقف عن بناء المستوطنات واحتلال المزيد من الأراضى الفلسطينية. عن أي صفقة تتحدث “هايلي” وحكومة نتانياهو تعمل جاهدة في الآونة الأخيرة على تهويد القدس لا من خلال تفريغها من المسلمين فقط، بل عبر تهجير مسيحييها العرب، سكانها الأصلاء، عبر فرض رسوم وضرائب على المؤسسات الكنسية ما أنزل الله بها من سلطان، وهدفها ليس تحصيل الضرائب بل تعجيز القائمين عليها عن الدفع، ولاحقًا مصادرة تلك الأملاك، ثم سحقها ومحقها لتبقى القدس، خاصة بدون أدني شاهد مسيحي أو إسلامي. وعلى جانب آخر تبقى الألغام الكامنة في أحاديث “صفقة القرن” كفيلة بإشعال حروب شرق أوسطية مدمرة حال صدقت أطماع “هايلي” ومن يلفون لفها في طرح حلول جغرافية تتلامس وسيادة دول الجوار على أراضيها وبخاصه مصر وهو أمر دونة “خرط القتاد” كما يقال. “فات الميعاد” لأن تضحى “أمريكا – ترامب” صاحبة أى صفقات فلا صفقة قرن ولا صفقة عقد ولا صفقة جيل، والحق لا يضيع ووراءه مطالب، وربما أحسن الرئيس أبومازن حين أشار أمام مجلس الأمن إلى أن أفضل بديل هو “آلية متعددة الأطراف” يكون العالم فيها برمته شهود على الإفك الاسرائيلي والبهتان الأمريكي تجاه القضية الأكثر عدالة في حاضرات أيامنا.
مشاركة :