الإعلان عن عودة السفير السوداني إلى مصر، الاثنين، خطوة مهمة تطوي مؤقتا واحدة من الصفحات القاتمة في العلاقات بين البلدين، لكن لا تزال الصفحات الأساسية التي دفعت التوتر إلى الدائرة الرمادية مفتوحة، وتتعامل الخرطوم مع هواجسها السياسية والأمنية حيال القاهرة على طريقة “عفا الله عما سلف” إلى حين حدوث أزمة أخرى تأتي على الأخضر واليابس. النظام السوداني لم يكن مقتنعا بخطوة عودة العلاقات إلى ما كانت عليه قبل سحب سفيره عبدالحليم عبدالمحمود من القاهرة للتشاور منذ شهرين، لكنه يبدو مضطرا على وقع تصاعد حدة المشكلات الداخلية إلى ضرورة التهدئة مع مصر، والتي دفعته إلى اتخاذ مجموعة من التغييرات في عدد من الأجهزة الأمنية والسياسية والاقتصادية والحزبية، أملا في إحكام السيطرة على الأمور الداخلية. الأوضاع في السودان تفاقمت بصورة جعلت الرئيس عمر حسن البشير يضحي بعدد من أقرب مساعديه في مجالات مختلفة، ما يؤكد أن الأزمات تصاعدت بطريقة قد تخرج عن السيطرة، وهو الاتجاه الذي صبّت فيه منحنيات التغييرات التي تمت خلال الفترة الماضية. لا يفيد الحديث عن تبرئة مصر من اتهامات وجهت إليها، بسبب ما ردده مسؤولون في الخرطوم بشأن تدخلها في شؤون السودان الداخلية والتعاون مع إريتريا لدفع المعارضة إلى غزو البلاد من الشرق، لأن النقاط الجوهرية التي تدفع الخلافات إلى الواجهة لم تطرأ عليها تغييرات هيكلية. أزمة مثلث حلايب وشلاتين وأبورماد على حالها وقابلة للانفجار في أي وقت، موقف السودان المحوري من ملف سد النهضة لم يتغير حتى الآن، علاقة الخرطوم بكل من قطر وتركيا من العناصر الرئيسية التي يعتمد عليها النظام السوداني ولم نر فيهما جديدا يبدد عدم اضمئنان القاهرة. الأهم أن موقف الخرطوم من دعم جماعة الإخوان المسلمين والتنظيمات المتطرفة لم تطرأ عليه تحولات لافتة، ربما صدرت تلميحات غير رسمية حول تخفيف علاقة الخرطوم مع هؤلاء، لكن لم يقدم السودان حتى الآن ما يثبت أنه ابتعد خطوة كبيرة عن توجهاته الإسلامية. الخطوة التي خطاها النظام السوداني حيال تخفيف حضور الحركة الإسلامية لها علاقة بترتيبات البيت من الداخل وتكريس نفوذ الرئيس عمر البشير، ومحاولاته المتكررة لقصقصة أجنحة مناوئيه من الإسلاميين، داخل المؤسسة العسكرية وفي حزب المؤتمر الوطني الحاكم، والاستعانة بآخرين، وهم محسوبون أيضا على التيار الإسلامي للتخلص من المناهضين لما يجري من استعدادات سياسية وقانونية لتهيئة المسرح أمام استمرار البشير لفترة رئاسية جديدة بعد عامين. البشير لم يعدل أو يغير من توجهاته إزاء قطر وتركيا، لكنه خفف من اندفاعات نظامه السلبية مع مصر، وصعد قيادات أمنية وعسكرية وحزبية وتنفيذية ليست على خصام مع القاهرة الخطورة التي استشعرها البشير على نظامه جاءت بالأساس من رافدين؛ أحدهما تزايد احتجاجات الشارع على الغلاء الذي طحن قطاعا كبيرا من المواطنين، والآخر ارتفاع وتيرة التحركات الخفية لإجبار البشير على إنهاء مدة رئاسته الحالية في هدوء. على الصعيد الأول، جاءت التغييرات في المؤسسات الاقتصادية وتم اتخاذ خطوات أملا في أن تخفف المعاناة عن المواطنين، وتقطع الطريق على محاولات المعارضة استثمار الأزمة لتحريض الشارع على الخروج في مظاهرات، بدأت عفوية لكن جرى تسييسها لاحقا، ما ينذر بخطورة حقيقية، لأن الأوضاع لا تحتمل انفجارا بالشارع السوداني في توقيت بالغ الحساسية. وعلى الصعيد الثاني، يحاول البشير أن تكون خطواته أسرع بكثير من خطوات خصومه. وكما قام بتقليم أظافرهم من قبل على مدار سنوات حكمه، يحاول تكرار المسألة بقدر أعلى من الحرفية لأن المنتمين إلى الحركة الإسلامية في السودان بفروعها المختلفة استوعبوا دروس الماضي وبدأوا خطوة مواجهة البشير بصورة تستوعب التجارب السابقة، فجمعوا شمل شتاتهم في أحزاب وجماعات مختلفة مستفيدين من وجود البعض في قلب السلطة خلال السنوات الماضية. وجاء البشير، بمن يعرفون خفاياهم وقام بتصعيدهم، فقام بإعادة تعيين صلاح عبدالله (قوش) رئيسا لجهاز المخابرات العامة والأمن الوطني، وقام بتصعيد فيصل حسن صالح مساعدا له في الرئاسة ونائبا له في حزب المؤتمر الوطني، كما جاء برئيس جديد للأركان هو الفريق أول كمال عبدالمعروف، ناهيك عن تصعيد قيادات تنفيذية مهمة لإحكام السيطرة على أي خلل متوقع في أجهزة الحكم. الواضح أن الليونة التي يظهرها النظام السوداني حاليا ليست لها علاقة بتغيير قناعاته نحو النظام المصري، حتى لو صبت حصيلة التغييرات التي قام وسوف يقوم بها البشير لاحقا، في صالح القاهرة، فمن يريد الحفاظ على حكمه ومن يتبنى نهجا انتهازيا في الإدارة لن يتورع عن اتخاذ إجراءات يتصور أنها قد تساهم في تثبيت أركان سلطته التي تعرضت في الآونة الأخيرة للمزيد من التآكل والاهتزاز، دفعته إلى الإسراع بتغيير تحالفاته في الخارج، والتضحية بأي جهة يعتقد أنها لن تفيده، والميل نحو أخرى ربما تجلب له نفعا. هذه إحدى القواعد الحاكمة التي لعبت دورا مهما في تحديد مصير ومفاصل العلاقة مع مصر، في حالتي الشد والجذب، فالتوتر الذي ساد بين السودان ومصر لفترة من الزمن لا علاقة له بالقضايا الخلافية الثنائية، والدليل أن الانسجام عاد من دون حدوث تغيير جوهري في أي من الملفات التي دار حولها الصخب السوداني قبيل سحب السفير من القاهرة، لكن الأمر بدا كأنه محاولة لتبرير عدم انخراط الخرطوم في علاقات أكثر متانة مع كل من الدوحة وأنقرة على حساب القاهرة. البشير لم يعدل أو يغير من توجهاته إزاء قطر وتركيا، لكنه خفف من اندفاعات نظامه السلبية مع مصر، وصعد قيادات أمنية وعسكرية وحزبية وتنفيذية ليست على خصام مع القاهرة، إن لم تكن قريبة منها أو على استعداد للتعاون معها، لأنه لا يريد أن تظل الجبهة المصرية على حالها السابق من التوتر، والتهدئة المطلوبة خيار محوري في هذه اللحظة الحاسمة التي يعاني فيها النظام من سلسلة من الأزمات الداخلية المركبة، لا يستطيع تحمل تكاليفها الباهظة إذا خاص صراعا مزدوجا، في الداخل والخارج. من تصوروا في القاهرة أن البشير سيضحي بإثيوبيا لاسترضاء مصر، بالطبع يخطئون ولا يعرفون كيف تفكر الخرطوم، فالانحناء لأي عاصفة عاتية متوقع أن تأتي من جهة مصر لا يعني بالضرورة مجابهة عواصف أخرى، اقتصادية وسياسية وأمنية، مع أي من الدول التي كانت مصدرا لتعكير العلاقات بين مصر والسودان. لذلك فعودة السفير السوداني إلى القاهرة غدا، يمكن فهمها في سياق البرغماتية التي يدير بها نظام الرئيس عمر البشير علاقاته، ومكنته من الاستمرار في السلطة لنحو ثلاثين عاما، تعرض خلالها لرياح متقطعة وجاءته من جهات متفرقة، ومن الصعوبة التعامل معها أو حتى قراءتها باعتبارها نقلة نوعية حقيقية لإعادة النظر في سجل العلاقات ومحاولة تصحيح الأخطاء على أسس سليمة. الحديث العاطفي عن وحدة وادي النيل والمصير المشترك ربما يصلح لدغدغة مشاعر البسطاء هنا وهناك، لكن التصويب الحقيقي يبدأ بالمكاشفة والصراحة الشديدتين بشأن الأسباب التي أفضت إلى التوتر، لأن التهدئة الناجمة عن دوافع لا علاقة لها بالأزمات الحقيقية سوف تتوارى ويخرج من رحمها توتر جديد، هكذا علمتنا خبرة الماضي والحاضر بين مصر والسودان.
مشاركة :