كنت تحدثت في مواد سابقة عن محدودية وقصور خيار حل الدولة الفلسطينية المستقلة، وانسداد هذا الخيار بسبب تعنّت إسرائيل، وإصرارها على دوام السيطرة على الفلسطينيين، وسلبهم أراضيهم، وأيضاً بسبب استمرار الدعم الأمريكي لهذه المواقف، على نحو ما شهدنا، مؤخراً، في إطاحة الرئيس ترامب، دفعة واحدة، بكل القضايا المؤجلة إلى المرحلة الأخيرة من المفاوضات (القدس واللاجئين والحدود والمستوطنات)، بحسب اتفاق أوسلو (1993)، كما أطاح معها بوهم اعتبار الولايات المتحدة راعيا نزيها وضامنا موثوقا ووسيطا محايدا في عملية السلام. وفي ذات السياق كنت تحدثت، أيضاً، عن ضرورة استعادة خيار الدولة الديمقراطية الواحدة، بمختلف أشكالها، ليس كخيار بديل، وحصري، كما قد يعتقد البعض، وإنما كخيار مواز، باعتبار أن مثل ذلك الحل، هو الأمثل، للفلسطينيين والإسرائيليين، كونه يتضمن تقويض الصهيونية، بتجلياتها السياسية والأيدلوجية والاجتماعية، كما يتضمن الإجابة على مختلف التساؤلات التي تطرحها قضية الفلسطينيين، في كافة أماكن تواجدهم (في مناطق 48 وفي الضفة وغزة، وفي بلدان اللجوء والشتات)، أي الأسئلة المتعلقة بالمساواة وحق العودة وانهاء الاحتلال والاستيطان، مع اجابته على ما تطرحه المسألة اليهودية في فلسطين. كل ذلك إلى جانب اعتباره حلاً تدرّجياً وكفاحياً ومستقبلياً، يرتبط بمجمل التطورات في المنطقة، وفي مقدمة ذلك التطورات في مجتمع الفلسطينيين ومجتمع الإسرائيليين. في كل الأحوال فإن هذه المادة تحاول مناقشة المقاربة بين فكرة “التحرير” بمعناها التقليدي وفكرة الدولة الديمقراطية الواحدة، انطلاقاً من وحدة القضية الفلسطينية، إذ لا يجوز، بحجة التسوية، لا تجزئة هذه القضية، ولا تجزئة الشعب الفلسطيني، ولا تناسي جذور القضية ذاتها، بمعنى طمس الرواية الفلسطينية التأسيسية، حيث لا بد لأي تسوية تاريخية أن تتأسّس على الحقيقة والعدالة، ولو النسبيين، لأنه في غياب ذلك لا نكون إزاء تسوية، بقدر ما نكون إزاء مجرد عملية هضم او إلحاق او هيمنة، تحت مسمّيات أخرى، مثلما حصل حتى الآن، في علاقة إسرائيل بالفلسطينيين؛ وهو الأمر الذي اعترف به الرئيس الفلسطيني ذاته، مؤخراً، في خطابه أمام مجلس الأمن الدولي عن عدم وجود سلطة لأن السلطة هي للاحتلال، وبشأن أن إسرائيل باتت في احتلال مريح في ظل هذا الوضع. يتركز النقاش هنا حول فكرة مفادها إنه إذا كان يمكن تفهّم العجز عن مواجهة إسرائيل، بحكم ضعف إمكانيات الفلسطينيين، والظروف المحيطة، غير المواتية، وعدم قدرتهم على تحصيل الحقوق، رغم كل التضحيات المبذولة طوال أكثر من نصف قرن من الكفاح، فإن ذلك لا يضفي أية شرعية على التنازل عن القضية، أو عن الرواية الفلسطينية الأصلية، ناهيك عن أن التنازل، حتى وإن حصل، لا يغير من واقع الأمر شيئاً، إذ الاحتلال سيبقى احتلالاً، والهيمنة على الفلسطينيين وحرمانهم من حقوقهم الوطنية، في هذه الظروف ستبقى، مع قيام كيان سياسي لجزء منهم، أو من دون ذلك. بل إن قيام كيان كهذا، كما تبين من اعتراف الرئيس ذاته، قد ينجم عنه تبييض صفحة إسرائيل، والاعتراف بروايتها، بمفعول رجعي، ما يضر بصدقية كفاح الفلسطينيين وعدالة قضيتهم، ناهيك عن أن ذلك قد يؤدي إلى تقويض وحدة الفلسطينيين كشعب، وتصدّع هويتهم الوطنية وكيانيتهم السياسية، كنتيجة لاختزالهم بفلسطينيي الضفة والقطاع واختزال فلسطين بهاتين المنطقتين. هكذا، فإذا كان المشروع الوطني، الذي اختزل سابقاً في هدف «التحرير»، على نحو ما جاء في التصورات الأولية في الفكر السياسي الفلسطيني، في الستينات والسبعينات، مع صعود المقاومة المسلحة، والذي افترض أنه يمكن أن يتحقق كنتاج لحرب شعبية طويلة الأمد، وبالكفاح المسلح، وبالاستناد الى دعم جيوش أنظمة عربية، هذا المشروع قد تجاوزه الزمن، بخاصة أن التجربة بينت قصور القدرة على انجازه، لأسباب عدة، ذاتية أو موضوعية، لذا فإن البديل من ذلك ليس التخلي عن الرواية والحقوق والطموحات الوطنية، بحجة موازين القوى، أو أي حجّة أخرى، لأن ذلك لن يحل شيئاً، ولأن قضية الفلسطينيين، والأسئلة المنبثقة عنها، ستبقى هي ذاتها، طالما أن إسرائيل باقية على وضعها كدولة استعمارية واستيطانية وعنصرية وأيدلوجية في هذه المنطقة. يستنتج من ذلك أن البديل، سواء عن فكرة الدولة المستقلة في الضفة والقطاع، الجزئية، نسبة للأرض والشعب والحقوق، أو عن فكرة التحرير التقليدية، التي تقوم على تخيّل امتلاك القوة، وتوفر المعطيات العربية والدولية المواتية، لتقويض إسرائيل، واستعادة كل فلسطين، وهو بالمناسبة تخيّل مشروع، ولكن مشكلته أنه ليس واقعيا أو عقلانياً بعد كل التجارب التي مرت، وعلى ضوء ظروفنا وظروف العالم العربي، لذا البديل عن هذا وذاك ربما يتمثل بإدخال تعديلات على فكرة التحرير، يما يفيد باستعادة التطابق بين شعب فلسطين وأرض فلسطين وقضية فلسطين، ومراجعة الوسائل وأشكال العمل والخطابات التي سادت طوال العقود الماضية، وتطوير معانيها، بحيث لا تقتصر على تحرير الأرض، أي بحيث تشمل هذه العملية، أيضاً، على تحرير الفلسطينيين من علاقات الاستعمار والعنصرية والهيمنة الإسرائيلية، وتحرير اليهود ذاتهم من الصهيونية، وإضفاء قيم الحرية والمساواة والديموقراطية على فكرة التحرير. بديهي أن هذا التحول يفترض، أولاً، فتح أفق الخيارات الفلسطينية وعدم إغلاقها إزاء التطورات المستقبلية المحتملة او الكامنة. وثانياً، عدم الانحصار في إطار خيار واحد ووحيد ولا في أي مرحلة أو ظرف، كما حصل في الانحصار في خيار الدولة المستقلة منذ 1974، أي منذ 44 عاماً. وثالثاً، مراعاة ربط كل الخيارات مستقبلاُ بخيار الدولة الديمقراطية الواحدة، باعتباره الخيار الأمثل، الذي يضمن وحدة شعب وأرض وقضية فلسطين، ويكفل حل المسألة الإسرائيلية. في كل الأحوال من الصعب تصور خيارات فلسطينية ناجزة، أو تجيب عن كل الأسئلة، بعد كل ما مر من تطورات، ومتغيرات، عندنا وعند الإسرائيليين، وفي المنطقة العربية، لكن لا يجوز بكل الأحوال الإبقاء على واقع الانحصار بخيار واحد، لعقود، ولا الامتناع عن تصور امكان نشوء تحولات تفضي إلى تآكل فكرة إسرائيل، كدولة استعمارية واستيطانية وعنصرية.
مشاركة :