صدرت هذا العام للكاتب السوري مناف زيتون روايته الثالثة “ظلال الآخرين” عن دار نوفل هاشيت-أنطوان، وفيها نقرأ عن عوالم متخيلة يتخلخل فيها نظام العالم، وينجو منها سجين يخرج من زنزانته ليجد نفسه وحيدا في عالم لا يحوي أحدا سواه، لينتقل بين أرجاء أرض يباب باحثا عن معنى لوجوده، متسائلا إن كان فعلا موجودا، إن كان وحيدا وماذا يمكن أن يحصل لو التقى امرأة مثلا. “العرب” اللندنيّة التقت زيتون في حديث عن روايته الجديدة وعوالم الخراب التي تحضر فيها. دون تقاليد تنتمي “ظلال الآخرين” إلى الخيال العلميّ، وتصوّر عوالم ديسوتوبيّة تلت حدوث فاجعة الحرب الأهلية وانهيار النظام السياسي، لكن زيتون يعقب أن الرواية ليست ديسوتوبيّة بل تنتمي لعوالم ما بعد الكارثة، والحدث السابق لزمن الرواية يمكن تصنيفه كذلك، ويرى أنه لا يمكن أن نعمم ونقرر ما هي الحساسية الجماليّة للقارئ العربيّ وعلاقته مع الخيال العلميّ ذي المركزية الغربيّة إذ يقول “هناك تعميمات ساذجة ترتبط بالقارئ العربي والتي تتجاهل أنه مطّلع على ترجمات أورويل وهكسلي، كما تتجاهل إنتاجا عربيا هاما في هذا المجال مثل رواية الصمت والصخب لنهاد سيريس مثلا”. تعمد زيتون إغفال أي مرجعيات واقعيّة في الرواية سوى اللغة العربية مقابل لغة أخرى متخيّلة، بل حتى أسماء فصول الرواية أو أبوابها حسب تعبيره نقرأها باليونانيّة، ومع ذلك اعتمد على الكثير من المرجعيات الأدبيّة العربيّة والمألوفة للقارئ، لكن حضور هذه المرجعيات لم يشكّل تناصا بل أقرب إلى تعليقات على هذه النصوص. إن الكتابة الأدبية عن حدث حقيقي تتطلب استيعابا كليا لهذا الحدث ومآلاته وعناصره، ليتمكن الكاتب من تقديمه في قالب فني يكشف رؤية أخرى وأكثر عمقا لهذا الحدث المتناول. وهذا ما لا يتوفر في أحداث الواقع العربي اليوم التي لا تزال تدور رحاها دون أن يعرف لها أحد وجهة. “العرب” التقت بالكاتب السوري مناف زيتون الذي عرف عنه أنه قرر ألا يكتب بشكل مباشر عما يحدث في سوريا رغم انشغاله الكبير به نسأل زيتون عن المعايير التي اعتمدها لاختيار ما ينتمي لعوالم الرواية وما لا ينتمي لها، يجيب بقوله إن الأمر مرتبط بحصول أحداث الرواية والأحداث السابقة لها في مستقبل متخيل تتغير فيه الخارطة السياسية للعالم بحكم حصول ست موجات من الحروب الداخلية والإقليمية نعيش أولها الآن في واقعنا. ويضيف “تقسيم العالم في الرواية إلى الشمال والجنوب ليس خارجا عن واقعنا، حيث يتم تقسيم العالم في الكثير من الأعمال الاقتصادية المعروفة إلى الشمال (الغني) والجنوب (الفقير)، ضمن هذا السياق لا يعتبر وجود اللغة العربية أو اليونانية التي تنتمي إليها الفلسفات المرتبطة بأسماء الأبواب أمرا غريبا، إذ لم تغب المرجعيات الواقعية إنما غابت أسماؤها، كما غابت أسماء الشخصيات والمدن”. اختار زيتون أن تكون نهاية العالم متخيّلة، لكن الآلية التي أدت إلى الإبادة “الغرف الذكيّة، السجون، البيروقراطية والقتل الممنهج”، تنتمي لكلاسيكيات الخيال العلمي الغربيّ كالدكتاتور الذي يوظف التكنولوجيا الحيويّة للهيمنة ثم الإبادة، فزيتون استثنى الاحتمالات التي تؤدي إلى نهاية العالم والنابعة من المنطقة العربيّة، إذ لا توجد حكومات عربيّة توظف التيكنو-بيولوجيا المتقدمّة للهيمنة على الجسد مباشرة، بل قدم لنا احتمالاً ينتمي للأنظمة الغربيّة الرأسمالية التي تسيس الحياة البشريّة وتسلّعها، والتي لا تستهدف سكان المنطقة العربيّة بشكل مباشر. ويعقب زيتون أنه لا يوجد ما يقيده بالتقاليد الأدبية العربية أو الغربية، ويوارب مضيفا “حقيقة أن الحكومات توظف التيكنو-بيولوجي ليست أمرا خياليا، بل هي واقع وقديم أيضا، خذ عمليات التعقيم الإجباري السائدة في بعض كبرى الدول الغربية حتى الربع الثالث من القرن الماضي مثالا، كما أنني لا أكتب خطابا سياسيا يفترض به أن يخاطب جماهير واسعة دفعة واحدة، بل رواية تخاطب صميم النفس الإنسانية وأزماتها المرتبطة بحاجتها للآخرين أو أفعالهم أو ظلالهم أو سمها ما شئت، فأنا لا أحاول أن أعكس الواقع المرئي بالعين المجردة، إنما الواقع النفسي الناتج عن اختلال ‘نظام الآخرين‘ المحيط بنا، والذي بتنا نتكئ عليه في تعريفنا بأنفسنا وتحديدنا لعناصر هويتنا”. معنى الطبيعة البشرية عوالم ما بعد الكارثة عوالم ما بعد الكارثة تدور أحداث الرواية في عوالم ما بعد الإبادة الممنهجة، في ظل انهيار السيادة السياسية والقانونيّة، وكأننا أمام أفراد لا رقابة عليهم ولا أنظمة عقاب سوى تلك الذاتيّة المرتبطة بالذاكرة، وكأننا أمام تساؤلات عن الطبيعة البشريّة وتكوينها في ظل غياب أنظمة وعلاقات القوة. يعقب زيتون بقوله إنه يحاول في الرواية تقصي أثر كل التعقيدات المتعلقة بالأنظمة السياسية والقانونية، فالتساؤلات ليست حول الطبيعة البشرية بقدر ما هي حول طبيعة النظام الذي تعيش البشرية وفقه عبر تحسس آثار غيابه. ويضيف “هذا سؤال يطرحه كل من شهد حربا أو افتقادا لأرضية الأمان التي يقدمها هذا النظام، وإن كان أمانا وهميا، معظم النقاشات اليوم تدور حول كيفية التزامنا بالشكل الأمثل لتنظيم الحياة البشرية، إنما أنا أو أشخاص روايتي نتساءل حول ما هو هذا النظام الأمثل أصلا، ومدى إمكانية الوصول إليه في ظل انعدام العدالة والفائدة العامة للبشر في شتى أشكال هذا النظام التي جربناها حتى اليوم”. يقول مناف زيتون إنه اتخذ قرار القطيعة كلية مع الموضوع السوري منذ بدايته الكتابة الروائيّة، هذا ما يتضح في رواياته السابقة، ويرى أن أي كاتب سوري اليوم أمام خيارين، إما الانسياق وراء رغبات السوق والمال السياسي وكتابة كليشيهات ودعاية سياسية رخيصة مقدمة بقالب أدبي، وإما عدم الانسياق وراء المواقف الآنية وشهادات حسن السلوك المدفوعة. ويضيف أن عوالم روايته كافية لشرح وتوضيح العوالم النفسية للشباب الذين يعيشون تحت الحرب، فما يعنيه أن يعبر عن الواقع البشري البائس في شتى النواحي، والحرب السورية ليست سوى جزء بسيط من نتائجه.
مشاركة :