معظم الدول العربية التي شهدت احتجاجات جماهيرية أطاحت بأنظمتها المستبدة أو مازالت مشتبكة مع أنظمتها، تشهد خلخلة لمنظومتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. حيث شهدت نزاعات واشتباكات مسلحة وضعت البلاد على شفير الهاوية. وبدأت فيها الهوية الوطنية بالتراجع لصالح هويات ما قبل الدولة كالقبيلة أو المذهب أو الإقليم. المآل الذي وصلت اليه الأمور في تلك الدول وضع تلك الاحتجاجات، التي سميت بالربيع العربي في دائرة الاتهام. فحمل الربيع العربي مسؤولية تدمير البلدان التي مر بها وتآكلها ونزع مقومات سيادتها وشرع الأبواب للتدخلات الخارجية التي بات لها الكلمة الحسم في مستقبل البلاد. وذهب البعض الى أبعد من ذلك فراح يبكي الأنظمة المطاح بها ويتغنى بمزايا الاستقرار والأمن التي سادت خلال حكمها ويدعو الى التخندق والدفاع عن الأنظمة التي مازالت مشتبكة مع الجماهير المحتجة. إن تحميل الربيع العربي مسؤولية المآل الكارثي الذي وصلت اليه الأمور ينطوي على الكثير من التسرع ويقفز عن رزمة من الحقائق والمعطيات الجوهرية. ويحول الضحية الى جلاد. بينما يمنح الجلاد صك براءة ويعطيه ضوءًا أخضر للتمادي في بطشه. وهو ما يتطلب قراءة موضوعية للتحركات الاحتجاجية تتيح لنا وضع ما يمكن جمعه من النقاط على ما يمكن لملمته من حروف الواقع لاستخلاص وفهم ما جرى ويجري اليوم. نار الاحتجاجات التي أطلق شرارتها إحراق التونسي محمد البوعزيزي نفسه كرد على قمع الشرطة له ونجحت في الإطاحة بالرئيس التونسي زين العابدين بن على، مثلت إلهاما وحافزا للجماهير العربية التي تعيش أوضاعا مشابهة لتلك التي كانت في تونس. إذ تتشابه أسس أنظمة الاستبداد سواء من حيث ركيزتها الأمنية العسكرية أو آلياتها الاقتصادية المافياوية التي تعمل على نهب مقدرات البلاد وسرقة مؤسساتها وإفقار شرائح واسعة من الشعوب وغياب التنمية الاقتصادية، إلى جانب تسلط الحزب الواحد أو العائلة أو العشيرة على السلطة والثروة، مما ولد حكم الرئيس المطلق الذي يحتكر السلطة، وهذا قاد الى غلبة السلطة التنفيذية على السلطتين التشريعية والقضائية. فتحولتا الى مجرد أدوات بيد السلطة التنفيذية للتغطية على تغولها على حقوق المواطنين. لقد هبت الجماهير في أكثر من بلد عربي في حركات احتجاجية سلمية ضخمة من خلال الحضور اليومي للملايين في الشوارع والساحات والميادين لتهتف للحرية والخبز والكرامة، فأعاد هذا الفعل الاعتبار الى الإرادة الذاتية المستقلة للجماهير العربية في الفعل والتأثير والاختيار، فطورت شعارها ليصبح “الشعب يريد إسقاط النظام”. لقد كانت الديمقراطية جوهر المطالب التي سعت الجماهير لتحقيقها من خلال نزولها للشوارع، لأنها من خلال الشعار الناظم الذي رفعته “الشعب يريد اسقاط النظام” هدفت الى تفكيك أنظمة الاستبداد وإحداث تحول جذري للعلاقة بين الشعب والحاكم تقوم على الانتخاب الحر والنزيه والمحاسبة والشفافية وتداول السلطة وفق دساتير ومرجعيات مدنية. اتسمت التحركات الجماهيرية بالعفوية. لم يحركها أو يقودها حزب سياسي أو يلهمها قائد. لقد كان كسر حاجز الخوف واحساسها بالقدرة على التغيير ورسم مستقبلها بيدها هو محركها الأساس. لقد وجدت أحزاب المعارضة التقليدية نفسها أمام واقع غير مألوف لها، فالأحداث في الشارع تسبقها، فحاول بعضهم ركب موجتها، في حين اتخذ آخرون موقفا ملتبسا منها. لم يكن غياب أحزاب المعارضة عن ساحة الفعل صدفة، فقد جاء ذلك نتيجة لسياسة ممنهجة لأنظمة عملت من أجل تأبيد حكمها واستبدادها على منع النشاط السياسي الناقد لأساليبها وأدواتها في الحكم. ففتحت السجون والمعتقلات لتزج بالناشطين الذين يخرجون على القواعد والقوانين الصارمة التي وضعتها لتقييد العمل الحزبي والسياسي. فظلت على الساحة العلنية أحزابًا ومنظمات غير فاعلة، تحت اسم المعارضة، وهي أشبه ما تكون مستلزمات ديكور لتجميل الحكم الاستبدادي القبيح. إن عفوية التحركات الجماهيرية مثلت مفارقة. فقد كانت من جهة إحدى نقاط قوة هذه التحركات. حيث كان المواطن المشارك فيها يشعر بأنه “ام الصبي الحقيقي” . فكانت مشاركته فيها تتم بكل عنفوان وصدق ولكن في الوقت نفسه فتحت شهية قوى إقليمية ودولية للتدخل في مسارها وتجيير احداثها لمصالحها. فتعاظمت محاولات ضغط واحتواء واستيعاب التحركات. لقد سعت الأنظمة بكل ما تملك من قوة لبطش وقمع الهبة الجماهيرية. وزجت بكل أجهزتها القمعية في مواجهة الشارع الغاضب. ولكن في بلدان مثل مصر وتونس رفض الجيش أن يتوغل في دم المنتفضين. بل تدخل لحماية التحركات الجماهيرية فمثل موقفه صمام أمان لمنع الانزلاق نحو الهاوية. وهذا لم يحدث في الدول الأخرى مثل سوريا وليبيا حيث تم الزج بالجيش في معمعان المواجهة. وهو ما أدى الى تصدعات في هذه الجيوش، حيث بدأت تظهر ظاهرة الانشقاقات من صفوفه وبدأت تأخذ المواجهات طابعا دمويا. لقد أدركت الأنظمة أن انتصار الهبة الشعبية رهينا ببقائها في الشارع، فبهذا التواجد تملك قدرتها على الفعل والتأثير. كما أن بقاءها في الشارع يحمل إمكانية اتساع رقعة الهبات الشعبية الى دول أخرى والوصول الى منطقة “الأمن النفطي”. فالتقت رغبة الأنظمة بإخراج الجماهير من الشارع مع رغبات دول النفط، فعززت الأنظمة من خيارها الأمني وصعدت من سبل المواجهة العسكرية فدخلت في حرب مفتوحة مع شعوبها. وبموازاة ذلك سعت دول النفط الى فتح “دكاكين” مسلحة ويكفي هنا أن نشير الى تصريح حمد بن جاسم نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية السابق في قطر. الذي سلط فيه الضوء على دور دول الخليج في توليد المجموعات المسلحة في سوريا وتناحر هذه المجموعات فيما بينها لصالح هذه الجهة أو تلك. وقال فيه “إننا تهاوشنا (قطر والسعودية) على الفريسة (سوريا) فيما بيننا التي ضاعت منا أثناء تهاوشنا”. لقد بات واضحا للأنظمة الاستبدادية استحالة رجوع عقارب الساعة الى الوراء وعودة الأمور الى ما كانت عليه قبل الهبة. فقد رفضت الجماهير بعض الإجراءات الترقيعية التي هدفت الأنظمة من ورائها الى إغراء الجماهير بترك الساحات والميادين مثل إقدام النظام السوري على استبدال قانون الطوارئ سيء الصيت بقانون آخر لا يختل في مضمونه عن القانون المستبدل. فعززت من خيارها الأمني، إذ كثفت من حملتها القمعية بموازاة التصعيد بحربها العسكرية ضد المناطق المنتفضة. فاعتقلت نشطاء الحراك الجماهيري المدني فزجت الآلاف منهم في السجون وعمدت الى تصفية مئات النشطاء. وفي المقابل أخرجت من سجونها العناصر الإرهابية خاصة العناصر ذات الخلفية الاسلاموية. الذين رأت فيهم دول الخليج مادة خصبة للتدخل فسارعت الى دعمها وتبنيها. وكانت النتيجة أن فقدت الهبات طابعها السلمي واتخذت المواجهة طابعا عسكريا بحتا وفرغت من عمقها الشعبي. ووجدت الجماهير نفسها بين كفي كماشة الأنظمة وحلفائها من جهة والمجموعات المسلحة من جهة ثانية. إن فشل الطرفين في حسم الصراع عسكريا شرع الأبواب للتدخل الخارجي، إذ سارعت القوى الإقليمية والدولية للتدخل إما لدعم الأنظمة او للتباكي على الشعوب. فتغيرت قواعد اللعبة وأصبحت الأطراف المحلية رهينة للتدخل الخارجي. وتحول الصراع الى صراع نفوذ بين القوى الخارجية لاقتسام الكعكة.
مشاركة :