لندن – تطرح المتغيرات السياسية منذ اعتلاء دونالد ترامب سدة الحكم العام الماضي تساؤلات عن مستقبل الدولة القومية التي تعاني من ضغوط متنامية تجعل من عملية مقاومتها صعبة أو شبه مستحيلة. ويشرح مارك ليال غرانت الدبلوماسي البريطاني من خلاله تقييم أعده بالمعهد البريطاني للشؤون الدولية “تشاتام هاوس” التهديدات المحدقة بكيانات هاته الدول، التي باتت في حالة من التشرذم منذ صعود الأحزاب المحافظة المتطرفة بأوروبا، بعد أن نجحت في عملية إقناع البريطانيين من الانسحاب من الوحدة الأوروبية؛ الكيان القومي الذي وحد الأوروبيين لمدى سنوات طويلة. وخرج جيل من االشعبويين في مختلف أنحاء العالم من هامش بلدان بعضها ذات نظم ديمقراطية وأخرى تحكمها سلطة دكتاتورية، ويعكس هذا الجيل النزعات العالمية التي جعلت خطابه الملطخ بالدم نموذجيا بعد ربع قرن من العولمة ما يشكل تهديدا للدولة القومية. وفي كافة أرجاء أوروبا فازت أحزاب قومية متطرفة من الجناح اليميني مثل الجبهة الوطنية في فرنسا والبديل لألمانيا وحزب الاستقلال البريطاني وآخرها نتائج الانتخابات الإيطالية الأخيرة التي فازت فيها الأحزاب اليمينية المتطرفة بأصوات الناخبين من خلال ردود فعل منحازة إلى أبناء البلد ومعادية للإسلام والعولمة. كما يستند ليال غرانت إلى خطاب ترامب أمام منظمة الأمم المتحدة في سبتمبر الماضي، حيث دعا الرئيس الأميركي إلى “صحوة كبرى للأمم”. ويرى أنه يوجه بهذا الخطاب تحذيرات إلى هذه الأمم ويشكك في مستقبلها. ويستنتج بقوله “هناك دليل على القول بأنه بعيدا عن إعادة بروز الدولة القومية قد نكون على مقربة من نهاية عهد الدولة القومية”. تطرق غرانت إلى زيارته للولايات المتحدة ويقول “عندما كنت في نيورك بصفتي سفيرا لدى الأمم المتحدة كان أحد أسئلتي المفضلة التي أطرحها على الأصدقاء الأميركيين ‘هل تعتقد أن الولايات المتحدة ستوجد ضمن حدودها الحالية في ظرف 100 عام؟’. ودون استثناء كان الجواب ‘نعم بالطبع، ولم لا تكون كذلك؟”. لكن حسب وجهة نظر ليال غرانت يكاد يكون ذلك من المحال. ويتساءل قائلا “في تاريخها القصير غيرت الولايات المتحدة شكلها بصفة ملحوظة ثلاث عشرة مرة. إذن ماذا سيتغير في المستقبل؟ لا أدري، قد تصبح بورتو ريكو الولاية رقم 51، وربما تنصهر كندا أو المكسيك مع الولايات المتحدة، وقد تستقل تكساس أو كاليفورنيا”. منذ تنصيب دونالد ترامب رئيسا على الولايات المتحدة في يناير عام 2017 زادت وتيرة المخاوف على مستقبل الدولة القومية، فأمام دعوة ترامب بلاده إلى الانكفاء بذاتها بتنبي شعار “أميركا أولا” باتت الشعبوية خطرا يهددا النظام العالمي السائد القائم على العولمة والمصالح المشتركة، لكن المعهد الملكي البريطاني للشؤون الدولية “تشاتام هاوس” يكشف خطرا أشد وأعمق يهدد الدولة القومية، حيث يحذر من خلال تقييم مارك ليال غرانت الدبولماسي البريطاني السابق، من تهديد التكنولوجيا وخطر الإنترنت التي تعجز أقوى الحكومات بالعالم عن التحكم فيها، إضافة إلى تداعيات الهجرة ودعوات الانفصال وخطر التنظيمات المتطرفة التي ستزيد من الانقسامات داخل هاته الدول ما أراد غرانت قوله، إنه أمر مخالف للتجربة التاريخية تصور بقاء بلد عمره لا يتجاوز 241 عاما دون تغيير في القرن القادم والحال أنه تغير 13 مرة إلى حد الآن. ويشير الدبلوماسي البريطاني إلى أن المسألة لا تتعلق بالولايات المتحدة، فكل الدول القومية في مفترق طرق. ويمضي بقوله “لقد تعودنا بهياكل حوكمة قائمة على بلدان ذات سيادة وتحكم نفسها بنفسها إلى درجة نسينا معها أن هذه الهياكل بدأت مع معاهدة واستفاليا في سنة 1648. قبل ذلك كانت العلاقات الدولية تقام بين مزيج من البلدان والإمبراطوريات والدول القومية، كلها ذات حدود مائعة ومتغيرة”. ويفسر مارك ليال غرانت ظروف نشأة الدولة القومية ويرى أن النظرة الأولى بعد 370 عاما تبدو الدولة القومية في طور الازدهار. وفي حين كانت هناك فقط 70 بلدا مستقلة وذت سيادة في سنة 1945، توجد الآن 193 منها، وآخرها الجبل الأسود وتيمور الشرقية وجنوب السودان. أما فلسطين وكوسوفو فهما تنتظران الانضمام إلى الأمم المتحدة. لكن هذا الانتشار للدول يراه غرانت علامة على ضعف الدولة القومية وليس قوتها. تمعن غرانت في الضغوط التي تمارس الآن على بلد ما. وفسر أولها بالنزعة الإقليمية، ويشير إلى أن الاتحاد الأوروبي هو شكل الإقليمية الأكثر تطورا وينبع من النظرة بأن تجميع الموارد والسيادة هو أحسن طريقة لتفادي النزعة القومية المفرطة التي تؤدي إلى الصراع الأوروبي. وفي صميم الجدل المؤيد لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في ما يسمى ‘بريكست’ نجد الدعوة إلى ‘استرجاع السيادة’. الاتحاد الأوروبي هو بالطبع خيار طوعي لكنه كان مصدر إلهام لأشكال أخرى من الإقليمية في مختلف أنحاء العالم مع شعور البلدان بأن أمنها ومصالحها الاقتصادية تتم حمايتهما بشكل أفضل عندما تكون جزءا من تكتل إقليمي وهي مستعدة للتضحية بدرجة من السيادة لتحقيق ذلك. وفي الطرف الآخر من المعادلة، يلاحظ أن النزعة المحلية هي الأخرى في صعود، حيث تطالب مجتمعات معينة من الحكومات بالحصول على قدرة أكبر لإدارة شؤونها الخاصة. ونجد الأكراد والكتالونيين آخر المجموعات التي عبرت عن هذه المطالب عبر استفتاءات على الاستقلال. لكن هناك أمثلة أخرى بما في ذلك إسكتلندا والكيبك، هذا بغض النظر عن الصراع بين الحكومة الفيدرالية الأميركية والولايات المكونة لها. في كل هذه الحالات تقريبا تجبر الحكومات على التخلي عن السلطة لفائدة السلطات المحلية. تهديد تكنولوجي أما الضغوط الأخرى التي تسلط على الدولة القومية حسب غرانت فهي الشركات متعددة الجنسيات. ويقدم غرانت “والمارت” مثالا ويقول “لو كانت ‘والمارت’ بلدا لكانت البلد العاشر الأغنى في العالم أي لكانت هناك 69 شركة كبرى من بين أولى الكيانات الاقتصادية المئة”. بيد أن المسألة الأساسية أن لا والمارت ولا آبل بلدا، وناخبوها هم أصحاب أسهم دوليون وليسوا ناخبين وطنيين. ومن ثم تتأتى صعوبة أن تملك الحكومة البريطانية وآخرين ضمانة بأن تقوم مثل هذه الشركات بدفع الضريبة المطلوبة على الأرباح المتحصل عليها في المملكة المتحدة، أو إقناع الشركات التكنولوجية بمنع سوء استخدام منصاتها لنشر التطرف. والإنترنت نفسها هي تهديد آخر للدولة القومية بما أنها بطبيعتها لا تحترم الحدود. ومع ذلك باستطاعة البلدان (وإن بصعوبة متزايدة) التحكم في حركة البضائع والأشخاص والأموال عبر حدودها، على عكس المعلومات أو الأفكار الممررة على الإنترنت. ويلفت غرانت إلى أن الإعلام الاجتماعي أحدث تحولا في طبيعة السياسة في جل الديمقراطيات، حيث مكنت الإنترنت من التدخل الأجنبي في الانتخابات، فضلا عن نقل المواد الضارة. والحكومات التي حاولت التحكم في الإنترنت أو تنظيمها، مثل الصين أو تركيا، اكتشفت أن فعل ذلك يكاد يكون أمرا مستحيلا. كل هذه الضغوط المختلفة على الدولة القومية حديثة نسبيا، لكن هناك ضغوطا أخرى أقدم بكثير يسلط عليها الضوء غرانت ويعتقد أنها ازدادت حدة في السنوات الأخيرة بسبب إشكاليات الدين والهجرة. ضغوط الدين والهجرة يبين غرانت أن الدين على الدوام أكبر من الوطن وكثيرا ما قسم البلدان، والمثال على ذلك الهند والسودان وأيرلندا، وغيرها كثير. لكن ما يسمى الإسلام السياسي رفع سقف التحدي للدولة القومية، حيث كانت محاولة الدولة الإسلامية الفاشلة في بناء دولة خلافة جديدة تعتمد على الاعتقاد بأن الأمة الإسلامية هي هيكل الحكم الصالح الوحيد، وليست الدول “المصطنعة”. مارك ليال غرانت: من غير الحكمة وفي تضارب مع التجربة التاريخية الافتراض بأن نظام الدول القومية سيتواصل آليا لمئة سنة أخرى في شكله الحالي ويلفت الدبلوماسي البريطاني إلى أنه “على الرغم من سحق دولة الخلافة (داعش) لكن بلدانا في الشرق الأوسط مثل سوريا والعراق وليبيا واليمن تصارع بدرجات مختلفة من أجل الحفاظ على كياناتها كدول”. ورغم فقدان تنظيم “الدولة الإسلامية” السيطرة على مناطق واسعة في العراق وسوريا، فإن الأوروبيين يتوقعون المزيد من الهجمات الإرهابية في أوروبا. وتخشى الشرطة وأجهزة الاستخبارات الألمانية الآن من عودة باقي “الجهاديين” وشنهم هجمات في ألمانيا. وبحسب تقديرات السلطات، ارتفع عدد الإسلاميين الخطيرين أمنيا، الذين لا تستبعد سلطات الأمن قيامهم بهجمات إرهابية في ألمانيا، بنحو غير مسبوق، حيث بلغ حاليا نحو 700 إسلامي. وكان استطلاع رأي أجراه معهد “يوغوف” الألماني لقياس مؤشرات الرأي بتكليف من وكالة الأنباء الألمانية ‘د.ب.أ’ أظهر أن 34 في المئة من الألمان يتوقعون تزايد خطر الإرهاب في أوروبا العام المقبل. وفي المقابل يتوقع 6 في المئة فقط من الذين شملهم الاستطلاع أن يتراجع خطر الإرهاب في أوروبا عام 2018، بينما رأى 46 في المئة من الألمان أن التهديد الذي يشكله تنظيم داعش سيظل كما هو. وعن تحدي الهجرة، يرى غرانت أنها أكبر حتى من الدين وبالتأكيد سبقت الدولة القومية، ويشير إلى أن الصعوبات التي وجدتها أنجيلا ميركل في تكوين حكومة على إثر الانتخابات في ألمانيا في سبتمبر الماضي تمثل دليلا بيانيا على كيفية ممارسة الزيادة الأخيرة في الهجرة من دون مراقبة للضغط على البلد الأكبر والأثرى في أوروبا الغربية، وبالطبع أثرت النظرة إلى الهجرة المفرطة على الانتخابات الأميركية والألمانية، فضلا عن استفتاء بريكست في المملكة المتحدة. إذن كيف لهذه الضغوط المتنوعة أن تؤثر على مستقبل الدولة القومية؟ يجيب غرانت عن هذا السؤال بقوله “أجد من المفيد التفكير في الدولة القومية مثل بيضة، فهي تتميز بالقوة الهيكلية لكنها في الوقت نفسه هشة. إذا عملت الضغوط المختلفة كأوزان مضادة لبعضها البعض من الممكن أن تستمر الدولة القومية أو حتى أن تصبح أكثر صلابة، تماما كما تقاوم البيضة كمّا ضخما من الضغط المسلط بشكل تناظري. لكن إذا حدثت الضغوط بشكل غير متساو ولم تتم إدارتها بنجاح، عندها يمكن لواحد أو اثنين منها أن يحدث شقوقا مميتة في نسيج الدولة القومية”. ويتابع “إذا انتهى نظام الدولة القومية الواستفالية ما هو نظام الحكم الذي سيأخذ مكانه؟ لا أدري، لكن ليس هناك نقص في الإمكانيات النظرية. في روايته بعنوان ‘في 1984” توقع جورج أوروال ثلاث دول إقليمية عظمى متناقضة، بينما أغلب كتّاب الخيال العلمي يقترحون إما شكلا من أشكال الحكومة العالمية وإما الانهيار إلى هياكل مجتمعية محلية”. الإعلام الاجتماعي أحدث تحولا في طبيعة السياسة في جل الديمقراطيات، حيث مكنت الإنترنت من التدخل الأجنبي في الانتخابات، فضلا عن نقل المواد الضارة لكن غرانت يخلص إلى الرد “حاليا لا يوجد واحد من هذه الخيارات يبدو محتملا، لكن حسب نظري سيكون من غير الحكمة وفي تضارب مع التجربة التاريخية الافتراض بأن نظام الدول القومية سيتواصل آليا لمئة سنة أخرى في شكله الحالي”. وكان ريشارد هاس، رئيس مجلس العلاقات الخارجية، في كتابه الصادر في أبريل العام الماضي بعنوان “عالم تسوده الفوضى: السياسة الخارجية الأميركية وأزمة النظام القديم” تنبأ بحدوث تغيير في النظام الدولي يهدد الدولة القوية. ورأى أن انتخاب دونالد ترامب والتصويت غير المتوقع لفائدة بريكست يؤشران على أن الكثير من الناس في الديمقراطيات الحديثة يرفضون العولمة والمشاركة الدولية والحدود المفتوحة للهجرة، فضلا عن الاستعداد للحفاظ على التحالفات والالتزامات الخارجية. تضاف إلى تلك الهواجس التهديدات الإرهابية وانتشار الأسلحة النووية والتغير المناخي وأمن شبكة الإنترنت، وحسب هاس “من الواضح جدا إلى درجة مؤلمة أن القرن الحادي والعشرين ستكون من الصعب إدارته”. ويدافع الكاتب عن الرأي القائل إن العالم بحاجة إلى نظام عمل جديد (يسميه النظام العالمي 2.0) يعكس حقيقة أن القوة موزعة على نطاق واسع وأن الحدود لم تعد لها القيمة نفسها. وأحد العناصر الحاسمة لهذا التعديل هو تبني مقاربة جديدة لمفهوم السيادة، وهي مقاربة تقبل التزاماتها ومسؤولياتها، إضافة إلى حقوقها والحماية التي تقدمها. ويفصّل هاس كيف يجب على الولايات المتحدة أن تتعامل إزاء الصين وروسيا، كما هو الحال في آسيا وأوروبا والشرق الأوسط. ويخلص إلى أن الولايات المتحدة بحاجة إلى تعريف الأمن القومي بشكل أوسع وذلك بمعالجة ما يعتقد عادة أنه قضايا داخلية (من السياسات العاطلة إلى ارتفاع المديونية)، فضلا عن التوصل إلى اتفاق حول طبيعة علاقة الولايات المتحدة مع بقية العالم.
مشاركة :