القاهرة – من بين تحديات عديدة وأزمات متنوعة تواجهها مصر في السنوات الأخيرة يبرز ملف الإعلام بمنصاته المختلفة. وأزمة الإعلام قضية مزمنة لا يمكن حصرها في الراهن، بل هي ترتبط بعقلية متجذّرة منذ عقود في العقلين السياسي والإعلامي المصري. وحتى بعد أن فتح الفضاء للإعلام الخاص تطوّر المشهد في مجال المنوعات، فيما بقي الخطاب السياسي والاجتماعي يتحدث عن الدولة وإنجازاتها والمؤامرات التي تحاك ضدها بلغة الصحف القومية التي قال عنها الصحافي المخضرم ورئيس المجلس الأعلى للإعلام، مكرم محمد أحمد، في حوار مع “العرب”، إنها تكتب عن الدولة وإنجازاتها لرئيس الدولة لا للرأي العام المصري والأجنبي. ترى الدولة المصرية أن بعض وسائل الإعلام الأجنبية تلعب أدوارا سياسية لخدمة أجندات معينة، وأيد ذلك مكرم محمد أحمد مشيرا إلى أن هذا يحدث بالفعل، فبعض وسائل الإعلام الأجنبية تغير طبيعة دورها المهني كجهاز إعلامي مهمته أن يخبر بما هو صحيح إلى جهاز سياسي مهمته أن يروج لأفكار غير صحيحة. ودلل على ذلك بمثال الإعلام الغربي عندما يتحدث عن الرئيس المصري السابق محمد مرسي، حيث يؤكد دائما في خطابه وحديثه أنه “الرئيس الديمقراطي المدني المنتخب”، وتساءل مكرم أين ذهب الثلاثون مليون مصري الذين خرجوا ضد مرسي في ثورة 30 يونيو 2013، وانتشروا في كافة شوارع وميادين مصر، مشيرا إلى أن هذا التجاهل من وسائل الإعلام الغربية يؤكد أنها تكيل بمعيارين ولدى بعضها أهداف وأجندات سياسية معينة. يتسبب ما يقدمه إعلاميون مصريون من تأييد مبالغ فيه للحكومة في غضب قطاعات واسعة من الرأي العام، ولا ترضى عنه الحكومة نفسها التي شكلت كيانات جديدة لضبط الفوضى والاستحواذ على فضائيات خاصة لتتحدث باسمها مع الإعلام العام المملوك لها أصلا، وهو ما اصطحب معه عملية تقييد واسعة للإعلام. من هذه الكيانات تشكيل المجلس الأعلى للإعلام برئاسة الصحافي المخضرم مكرم محمد أحمد، الذي تحدث في حوار مع “العرب” عن أزمات الحكومة المصرية مع الإعلام المحلي والخارجي وسيادة “الاستثناء” وغياب الثوابت، ودوره غير الواضح والمستقبل الذي ينتظره في ظل تراكم المشكلات وقال إن “الدولة والمجلس الأعلى لا يريدان من الإعلام الأجنبي أن ينحاز إلى مصر، وإنما نريد منهم (صحافيي الإعلام الأجنبي) رؤية موضوعية مهنية تلتزم بواجبات المهنة، و(بذلك) يصبح (الإعلام الأجنبي) بالفعل أكثر تأثيرا في الواقع المصري، لأن غياب مصداقية وسائل الإعلام الأجنبية يجعل المشاهد العربي ينصرف عنها ولن يلتفت إليها طالما أنها تزور الحقائق”. لكن، لا يتحمل الإعلام الأجنبي وحده المسؤولية، ففي الكثير من الأحيان يأتي الخطاب الإعلامي المؤيد بغير مقاصده حيث لا يخدم الإفراط في الثناء الحكومة ويشوه صورة الدولة ويفقد الإعلام مصداقيته وموضوعيته، ما يجعل وجهة الباحثين عن المعلومة تتحول نحو الإعلام الأجنبي، الذي ينقل الصورة من زاويته الخاصة ووفق أجندته، وقد يتحول الأمر إلى أزمة تتجاوز حدودها الإعلامية. خطاب عكسي منذ أحداث 25 يناير 2011، تعقدت العلاقة بين الإعلام والدولة في مصر، ودول عربية كثيرة، مع الإعلام الأجنبي. وكشفت هذه الأحداث بشكل كبير عن مدى تداخل الأجندات السياسية والإعلامية. لكن، في مواجهة الإعلام الأجنبي الموجه، أضاع الإعلامي المحلي بوصلته حين حاول أن يصحح أخطاء الإعلام الأجنبي لكنه في الحقيقة اعتمد خطابا مشابها، وإن كان مضادا. ويتجلى ذلك من خلال الجدل الذين أثير مؤخرا على خلفية التقرير الذي بثته هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، عندما استضافت سيدة ادعت أن ابنتها مخطوفة قسريا من قبل جهاز الشرطة. ورغم أنه ثبت عكس ذلك، إلا أن طريقة تناول الإعلام المصري، ثم الحكومة، للقضية جاءت برد فعل عكسي. وبينما انتقد كثيرون الإعلام المصري واعتبروا أنه “فاقد للموضوعية”، حين استضاف أحد البرامج (من القطاع الخاص) ابنة السيدة التي ظهرت على شاشة بي بي سي، لتفند ما قالته أمها، ضمن مشهد اعتبر كثيرون أنه “مفبرك”، اتخذت القضية كأداة لدى الحكومة المصرية للانتقاص من قدر الإعلام الأجنبي، وأصدر النائب العام قرارا بالتحقيق مع كل وسيلة إعلام أجنبية تروج “أخبارا كاذبة” تعمل على أرض مصر، وتم اختزال الفوضى التي يمر بها الإعلام المصري في الإعلام الأجنبي. تحدث محمد مكرم عن القضية مشيرا إلى أن “محطة بي بي سي وقعت في خطأ مهني، وعلى هذه المؤسسة العريقة أن تعترف بأنها زيفت أحداثا ووقائع لتثبت أن هناك اختفاء قسريا في مصر، وما يتردد من حين لآخر عن الاختفاء القسري جزء من عملية سياسية مقصود بها التشويش على مصر والإساءة إليها ولا تستند إلى أسس حقيقية وتفتقد المصداقية”. وشدد رئيس المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام على تقديره لمهنية بي بي سي، لكنه لفت إلى أنها “هيئة إعلامية تموّل من الخارجية البريطانية وتعبر أحيانا عن مصالحها، ومعروف أن النظام البريطاني لا يزال يدعم جماعة الإخوان المسلمين، ولا تزال لندن بالنسبة لهذه الجماعة الملجأ والملاذ، ورغم اعتراف بريطانيا بأن جماعة الإخوان تمثل الطريق الخاطئ الذي يؤدي بالضرورة إلى الإرهاب لكن للأسف لم توات الحكومة البريطانية الشجاعة لإكمال مهمتها وتطالب بوقف إرهاب جماعة الإخوان”. المعلومة غائبة والصحف القومية تكتب للرئيس، فيلجأ القارئ إلى الإعلام الأجنبي في المقابل، لفت رئيس المجلس الأعلى للإعلام إلى أنه ليس من مصلحة الدولة المصرية وجود توتر مع الإعلام الأجنبي يصل إلى حد المقاطعة لأنها فكرة انتفت في العالم كله، ومن المهم أن يكون هناك حوار بينهما. واقترح مكرم فكرة عقد حوارات بين وسائل الإعلام الأجنبية -ومنها بي بي سي- ومجموعات من الصحافيين المصريين من المعارضة والمؤيدين للنظام على حد سواء والخبراء الإعلاميين الذين يرون ضرورة أن يكون باب الحوار مفتوحا على مصراعيه، ويرون أيضا أنه من الشجاعة أن يتصدى الجميع للأخطاء المهنية التي تكشف عن غياب المرجعيات الحقيقية وتكشف أيضا عن إهدار لمعايير أخلاقية تؤكد مصداقيتها أخلاق المهنة وأدبها. وأعرب مكرم عن رغبته في أن يتمكن كل صحافي أجنبي في مصر من أداء عمله بحرية والحصول على المعلومات بسهولة ويسر. وتمنى أن تعرف الحكومة المصرية حقيقة مؤكدة أثبتتها حوادث إرهابية عدة، وهي أنه عندما تمتنع عن تقديم المعلومات الحقيقية فإن الذي يملأ هذا الفراغ أشخاص يطلقون على أنفسهم خبراء ومحللين ومتخصصين وجميعهم يفتون بلا معرفة. وأضاف أنه في ظل غياب المعلومات تنشط مجموعات غير مؤهلة، أو ذات غايات سيئة، في تقديم الشائعات والأكاذيب، وهذا الدرس ينبغي أن تستوعبه جيدا الحكومة المصرية، فالإعلام وحش متعطش إلى المعلومات دائما، وعليك أن تروضه بالمعلومات الحقيقية حتى لا تترك الفراغ لمصادر أخرى لكي تملأه بالأكاذيب والشائعات وخدمة أجندات سياسية معينة. انفلات وضوابط قدم مكرم محمد أحمد مقاربة مختلفة عن رأيه الذي نشرته بعض الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي قبل أيام حول التحقيق مع الإعلامي المصري خيري رمضان بتهمة الإساءة لجهاز الشرطة، فقال إن ما حدث من الجهات القضائية والشرطية تجاه خيري يقتل أي مبادرة للإصلاح كونها تحتاج قدرا من الشجاعة في مواجهة الأمر الواقع، ويقتل أي أمل في إحياء التلفزيون المصري، مع الاحترام لنوايا الحكومة الخيرة والتي تمثلت في أن يعود التلفزيون المصري إلى وضعه الريادي ويؤدي مهامه ضمن كل الشاشات التلفزيونية. عندما تمتنع الدولة عن تقديم المعلومات الحقيقية فإن الذي يملأ هذا الفراغ أشخاص يطلقون على أنفسهم خبراء ومحللين ومتخصصين، وجميعهم يفتون بلا معرفة وعطف مباشرة على واحدة من القضايا التي تثقل كاهل الإعلام المصري، وتتعلق بتدخل بعض مؤسسات الدولة بشكل مباشر في توجيه أجهزة الإعلام وإدارة بعضها أحيانا ما يخنق الممارسة المهنية الصحيحة، كما أن من يتولون ملف الإعلام ليسوا من أبناء المهنة ما يجعلهم غير ملمين بتفاصيلها ولا يملكون رؤى حقيقية للتطوير. واعترف مكرم بوجود تدخلات من بعض الأجهزة والمؤسسات في الإعلام، قائلا إن النيات الطيبة لا تصنع إعلاما مؤثرا، بدليل أن هناك من اختصر تطوير التلفزيون المصري الرسمي في التعاقد مع بعض الإعلاميين من غير أبناء التلفزيون، دون أن يدرك أن كل من صنعوا مجد ماسبيرو (اتحاد الإذاعة والتلفزيون) كانوا من أبنائه الشباب الذين تم تهميشهم دون مبرر، وكأن الإصلاح يعني أن كل من أدى دوره ينبغي أن نهمله. وفي رأي رئيس المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام أن استعادة حيوية الإعلام المصري تحتاج إلى إطلاق عملية إصلاح والصبر عليها حتى تؤتي أكلها، لأن التحسن لن يتحقق بين عشية وضحاها، لكن “للأسف لا يوجد صبر على أي مبادرة للإصلاح ونتعجل النتائج دون أن نعطي لهذه الكوادر الإعلامية فرصتها كي تقدم إنتاجا جديدا”. وقدم وصفة للعلاج لخصها في أن المسألة تحتاج أن يفهم المعنيون بالأمر أن أساس الإصلاح ليس بإنشاء كيانات إعلامية موازية تسد الفراغ الموجود، لكن بإحياء الهمم في الكيانات القائمة بالفعل، وإذا فعلنا ذلك سنجد أن ماسبيرو سيعود بأضوائه وتألقه وريادته ونجومه ورؤاه التي صنعت تاريخا جيدا ما زال البعض يستشهد بها حتى الآن. لا تقتصر الأزمة على التلفزيون المصري، فالصحف والمطبوعات الورقية في مصر تعاني أزمة رواج ناتجة عن أن بعضها له علاقة بفقدان بعض الصحف المصداقية، وهو ما كسر حاجز الثقة بينها وبين القراء، وبعضها الآخر له علاقة باختلاف المناخ والمزاج العام الذي أصبح يميل إلى متابعة الفضائيات والمواقع الإلكترونية التي تستطيع نقل الحدث وقت حدوثه مرفقا بتحليلات دون حاجة إلى انتظار الجريدة الورقية في اليوم التالي. تنذر هذه الأزمة المتفاقمة -التي تبدو بلا حلول في الوقت الراهن، في ظل تراكم الديون على المؤسسات الصحافية القومية في مصر- كما يقول خبراء ومهنيون، بتخلي الدولة عن المؤسسات الصحافية القومية قريبا، كما حدث مثلا قبل عقدين عندما أقدمت الحكومة على خصخصة شركات القطاع العام. على الصحف القومية أن تطور خطابها وتكون أول من يقدم للناس المعلومات حتى تستعيد ثقة المواطنين فيها لكن مكرم محمد أحمد، الذي ترأس لمدة 20 عاما مجلس إدارة مؤسسة دار الهلال وهي من أقدم المؤسسات الصحافية في مصر، وضع مستقبل الصحف في ملعب العاملين فيها. وانتقد الصحف القومية التي ما زالت تعيش على الماضي ولا تحاول التجديد والتطوير، وتتصور أنها تخاطب قارئا واحدا فقط هو رئيس الجمهورية، ما يعني (ضمنيا) أنها لم تعد صحفا قومية مملوكة للشعب مع أنها من الواجب أن تعبر عن جميع الفئات وليس الرئيس فقط. ولم يُدل مكرم برأي محدد حول رؤيته لمستقبل تلك الصحف، واكتفى بالقول إن عليها أن تخاطب المواطن العادي وتكون صادقة وأول من يقدم للناس المعلومات حتى تستعيد ثقة المواطنين فيها، ورغم ما يقال عن الأزمات المالية التي تعاني منها الصحف فإن 60 بالمئة من توزيع الصحف في مصر تستحوذ عليه الصحف القومية، و70 بالمئة ممن يعملون في الصحافة بمصر من العاملين في الصحف القومية، وهم أحسن حالا واستقرارا وثباتا من غيرهم. رداءة الإعلام يقول إعلاميون مخضرمون إن أزمات الإعلام المصري بدأت عندما تنازلت “الميم” لصالح “النون”، (الإعلان بدلا من الإعلام) وبات المعلن هو المتحكم والآمر في كل شيء، وصار مالك القناة أسيرا للمعلن وهدفه الوحيد هو الربح، وفي المقابل خسرت المهنة وتاهت في زحمة الأبواق المتعددة. وعندما تم الإعلان عن تشكيل المجلس الأعلى للإعلام منذ عام، كبديل عن وزارة الإعلام التي ألغيت بموجب دستور عام 2013، تمنى كثيرون أن يساهم في ضبط المشهد الإعلامي والإعلاني، لكن طالته الأمراض التي طالت أداء الإعلام وجرى تحميل المجلس ورئيسه مسؤولية تردي حال الإعلاميين ورداءة الرسالة الإعلامية بشكل عام. وتزايدت الاتهامات مؤخرا بتصاعد دور المجلس ودور الحكومة المصرية وأجهزتها في التدخل في وسائل الإعلام المختلفة وفرض شكل غير مألوف في العصر الحديث عليها، من حيث فرض ضوابط صارمة ضد حرية التعبير واتخاذ عقوبات مشددة ضد بعض الإعلاميين وصدور قرارات كثيرة من المجلس نفسه بإيقاف الكثير من البرامج. 60 بالمئة من توزيع الصحف في مصر تستحوذ عليه الصحف القومية ويرى مكرم محمد أحمد أن الإعلام المصري مر بحالة فوضى نتج عنها أداء رديء، (ومنحط) وصل إلى حد رفع الأحذية في أحد البرامج على مرأى من الجميع وتدنت ثقافة الحوار، وشاع سلوك استعداء الآخر، وإشعال فتيل الأزمات الخارجية، وهي مخالفات لا يمكن أن تندرج في إطار حرية الرأي والتعبير بل هي تجاوزات مهنية وأخلاقية تسيء إلى الأعراف والتقاليد والذوق العام وميثاق الشرف الإعلامي. وأضاف (بانفعال شديد) “لسنا هواة عقوبات فعندما نلجأ إلى العقوبة نكون مضطرين ونلجأ إلى أقل العقوبات بعد أن أصبح كل شيء مباحا، وتصور البعض أن بإمكانه أن يكون حكما وخصما في نفس الوقت، وتجاوزت حريات الأشخاص حريات المجتمع، وإذا أردنا للأمور أن تعود إلى نصابها لا بد أن تعود المهنة الإعلامية إلى أصولها الصحيحة”. وأوضح أن المجلس الأعلى للإعلام لا يملك سلطة قضائية لإلزام الفضائيات الخاصة بالابتعاد عن الإثارة أو تحري الدقة في ما يعرض من قضايا ومعلومات على شاشاتها، لكنه يسعى لوضع إطار أخلاقي عام يكون ملزما للجميع، فالمجلس مسؤول بحكم القانون عن تثبيت القيم المهنية في الإعلام عموما. وكشف أن المجلس أعد لائحة خاصة بجزاءات ومخالفات إعلامية سيتم توقيعها على الصحف والفضائيات الخاصة حال ارتكاب مخالفات، مشددا على حرصهم خلال إعداد اللائحة على حرية الرأي والتعبير. وأشار مكرم إلى اللجان النوعية التي شكلها المجلس لمتابعة وضبط أداء الإعلام الرياضي والدراما، لأن التركيز الشديد على الانحرافات والمظاهر القبيحة يعطي صورة قاتمة لدى المشاهد المصري ويؤثر سلبا في سلوكياته. واعترف بأن رسالة المجلس الأعلى في التعامل مع تلك القضايا قد لا تصل بشكل صحيح إلى البعض، لكنه يعمل قدر المستطاع على أن تكون رسالة نصح وإدراك ووعي بأهمية المحافظة على وجود شواطئ للأشياء، لأن مصر عاشت على مدار ثماني سنوات ماضية حالة فوضى ضاعت فيها المعايير.
مشاركة :