لندن- المجتمعات الذكورية، وصف ألصق بالمجتمعات المشرقية في علاقة بالنظرة إلى المرأة وما تتعرض له من ضغوط ومظاهر اجتماعية تعطي الرجل حق التعامل مع المرأة وفق ميوله، ثم تضعها هي في إطار الشبهة. لكن، يتبيّن أن لا فرق بين مجتمع شرقي أو غربي في هذه النظرة مع اتساع رقعة الحملة ضد التحرش الجنسي، ففي السويد مثلا، ذلك البلد الأسكندينافي الهادئ تتعرض 81 بالمئة من نساء السويد للتحرش وفق دراسة أجرتها المؤسسة الأوروبية للحقوق الأساسية، لقياس العنف الجنسي والبدني ضد نساء دول الاتحاد الأوروبي. وتكشف منظمة الصحة العالمية أن 75 بالمئة من النساء حول العالم تعرضن لتحرش جنسي. وحسب الأرقام التي توردها المنطقة في تقاريرها حول هذا الموضوع لا يشكل تقدم البلد أو مدى انفتاحه اجتماعيا وثقافيا فارقا كبيرا، فمعدلات التحرش في كندا والدنمارك مثلا لا تختلف عن معدلات التحرش في بنغلاديش أو مصر. جمعية الأفلام البريطانية تعلن عن إنشاء خط ساخن سري يعمل على مدار الساعة لدعم العاملين في الصناعة وتقديم التدريب من أجل التعامل مع المزاعم والقضايا وحش التحرش يأتي هذا التحرك فيما تستمر الفضائح الجنسية في أماكن العمل وتصدرها في عناوين الصحف وتتعرض منظمة أوكسفام الخيرية البريطانية لانتقادات بسبب اتهامات بسوء السلوك الجنسي في هايتي وتشاد. وتتحدث تقارير عن تفشي التحرش داخل حرم الأمم المتحدة. وتعيد هذه الفضائح ملفات اغتصاب وتحرش القوات الأممية في أفريقيا بعديد من النساء هناك، وأيضا فضائح تحرش رجال الدين بالنساء والأطفال. التحرش ظاهرة مجتمعية قديمة وشأنها شأن مختلف المظاهر المرتبطة بسلوك البشر وحياتهم، تطورت مع تطور الحياة وطبيعة المجتمعات. في السابق لم يكن من السهل على الضحايا من النساء أن يكشفن عما تعرضن له إما لضغوط اجتماعية وإما لعدم وجود من يسمعهن ويسمع صوتهن. لكن، اليوم، بفضل الثورة في عالم الاتصال ومواقع التواصل الاجتماعي تغيرت الصورة. وأبرز مثال لتوضيح هذه الفكرة فضائح التحرش الجنسي التي هزت عرش هوليوود، عاصمة السينما الأميركية والعالمية، وفجرت عاصفة من الغضب المكبوت تجسّد في الشهرة التي تكتسبها يوما بعد يوم حملة “مي تو” التي تشجع ضحايا التحرش الجنسي في مختلف المجالات على الحديث وفضح المتحرشين. ولدت مي تو في أعقاب عام حاسم لحقوق النساء بعد أن تمخضت اتهامات بسوء السلوك الجنسي، بينها الاغتصاب، ضد المنتج السينمائي الأميركي هارفي واينستين. وكانت هذه الفضيحة الباب الذي فتح على مصراعيه للكشف عن عالم هوليوود الخفي فسقطت أوراق العشرات من المنتجين والمخرجين والممثلين وصناع السينما. ومن هوليوود إلى عاصمة السينما الهندية، بوليوود، ومختلف العواصم العالمية وصل تأثير حملة مي تو، حيث تبادل ملايين الضحايا قصصهم التي تكشف عن تدني المعايير الأخلاقية في المجتمعات الإنسانية إذ لا ينفك الرجال ذوو النفوذ عن مضايقة وترهيب النساء في كافة المجالات في جميع أنحاء العالم. واستقطبت هذه الحملة التي انطلقت في أكتوبر 2017 وما زالت مستمرة، الكثير من المشاهير ومن ضحايا التحرش الجنسي ومن غيرهم، من ذلك الممثلة سلمى حايك، التي تحدثت عما حدث لها في عام 2002 خلال تصوير فيلم عن الرسامة فريدا كاهلو. وشاركت حايك في حملة مي تو. وعلقت على مشاركتها بأنها ليست فقط مشاركة للنساء في تجاربهن، بل وجودها من أجل سماعهن أيضا. وكتبت مقالة نشرتها صحيفة نيويورك تايمز تحت عنوان “ظل لسنوات وحشا يرعبني”، واصفة بالتفصيل كيف تعرضت للتحرش الجنسي والتذمر والتهديدات. والتحرش الجنسي هو سلوك تطفلي مضمونه جنسي موجه ضد المرأة فيهددها في أمنها وسلامتها بدنيّا ونفسيا تحت الضغط ويستمد شكلا من المشروعية من علاقة التفوق السلطوي الاجتماعي في المجتمع الذي قد يتمتع فيه الرجل بنفوذ على حساب المرأة. ومن بين أسباب هذا التصرّف اللا أخلاقي انعدام أو ضعف الرادع رغم أن الكثير من الدول تفرض عقوبات رادعة ضد التحرش الجنسي، تتراوح ما بين الغرامة والسجن. ومؤخرا، ضمت الممثلة إيما واتسون صوتها إلى الأصوات المؤيدة لقواعد التصدي للتحرش والتنمر في صناعة الأفلام والتلفزيون البريطانية فيما تهز فضائح سوء سلوك جنسي قطاعات مختلفة في البلاد. وقالت جمعية الأفلام البريطانية والأكاديمية البريطانية لفنون السينما والتلفزيون (بافتا) إنه سيتم إنشاء خط ساخن سري يعمل على مدار الساعة في أبريل لدعم العاملين في الصناعة وتقديم التدريب من أجل التعامل مع المزاعم والقضايا. وقالت واتسون، التي اشتهرت بدور ساحرة صغيرة في سلسلة أفلام هاري بوتر، “هذه القواعد لا تهدف لحماية الأفراد فحسب بل هي أيضا خطوة مهمة لاستيعاب مجموعة أكبر من الآراء”. وحثت جمعية الأفلام البريطانية والأكاديمية البريطانية لفنون السينما والتلفزيون كل قطاعات صناعة الأفلام على اتباع القواعد التي تهدف إلى “القضاء على التنمر والتحرش ودعم الضحايا بشكل أكثر فاعلية”. خطوة ضرورية حملة "مي تو" صحوة اجتماعية ضرورية، انطلاقتها من هوليوود أعطتها دافعا قويا، وجعلت أصوت ضحايا التحرش الجنسي أقوى يصف متابعون حملة مي تو بأنها “صحوة اجتماعية ضرورية”، مشيرين إلى أن انطلاقتها من هوليوود أعطتها دفعا قويا وجعلت أصوت المتحدثين عنها أقوى. فمنذ سنوات طويلة دقت أجراس إنذار بشأن ممارسات يقوم بها عاملون في مجالات الإغاثة والتدخل الإنساني ورجال الدين والمسؤولون النافذون، ومنهم رؤساء دول، إلا أن التحذيرات لم تأخذ هذا الزخم الذي حازت عليه منذ إطلاق جرس الإنذار من هوليوود وانطلاق حملة مي تو. وانهال سيل فضائح التحرش، حيث كشفت منظمة أطباء بلا حدود عن قيامها بطرد 19 من موظفيها العام الماضي بسبب تورطهم بأعمال تحرش أو انتهاكات جنسية. وقالت المنظمة، ومقرها باريس، إنها تلقت 149 شكوى أو تنبيها خلال العام الماضي، تبين أن 40 منها اتهامات بالتحرش أو الاعتداء الجنسي. ويأتي تقرير المنظمة متزامنا مع فضيحة عصفت بمنظمة أوكسفام إثر اتهامات لها بعدم التعاطي بشفافية مع تورط عدد من موظفيها في عمليات استغلال جنسية في هايتي في أعقاب الزلزال المدمر عام 2010. وأدت الفضيحة إلى استقالة نائبة رئيس المنظمة وطرحت تساؤلات حول تمويل الحكومة البريطانية للمنظمة الخيرية والتي بلغت حوالى 32 مليون جنيه إسترليني (36 مليون يورو، 44 مليون دولار) العام الماضي. وحذرت بريطانيا من أنها ستقطع علاقاتها بمنظمات إغاثة أجنبية تتكتم على فضائح جنسية. وقالت وزيرة التنمية الدولية البريطانية بيني موردونت في مؤتمر في ستوكهولم “إن لم تقوموا بالتبليغ عن كل حادثة أو اتهام خطير، ومهما كان ذلك مسيئا لسمعتكم، لا يمكننا أن نكون شركاء” بحسب مقتطفات من خطابها نشرته وزارتها. وأضافت “نفس الرسالة نوجهها إلى أي منظمة أو شريك يتلقى مساعدات بريطانية. نريد للإجراءات أن تتغير. نريد من المسؤولين أن ينفذوا مهامهم بمسؤولية أخلاقية ونريد أن يخضع الموظفون للمحاسبة”. وأدى التحقيق الداخلي الذي تجريه اوكسفام إلى طرد أربعة موظفين فيما سمح لثلاثة آخرين بالاستقالة ومنهم فان هوفرميرن. ويتطلع موظفون وضحايا تحرش في مؤسسات ومنظمات كثيرة إلى مصير مماثل. وفي مواكبتها لموجة فضح المتحرشين نشرت صحيفة الغارديان تقريرا عن تفشي التحرش الجنسي في مكاتب الأمم المتحدة بأنحاء العالم، لافتة إلى أن المنظمة الدولية تهمل الضحايا، وتتجاهل مرتكبي هذه الأفعال وتبقي المتهمين في مناصبهم دون عقاب. واستقت الصحيفة البريطانية معلوماتها من عشرات الموظفين السابقين والحاليين في الأمم المتحدة الذين تحدثوا عن “ثقافة الصمت” السائدة داخل المنظمة. ومن بين الموظفين الذين تمت مقابلتهم، قالت 15 موظفة إنهن تعرضن للتحرش الجنسي أو الاعتداء خلال السنوات الخمس الماضية. وتراوحت الجرائم بين التحرش اللفظي والاغتصاب. مي تو بالعربي اعترفت الأمم المتحدة أن عدم الإبلاغ عن شكاوى التحرش هو مصدر قلق بالنسبة لها، بيد أن الأمين العام للمنظمة أنطونيو غوتيريس “أعطى الأولوية لمعالجة التحرش الجنسي ودعم سياسة عدم التسامح مطلقا”. البابا فرنسيس يتابع باهتمام ملف التحرش الجنسي، مع استمرار معاناة الكنيسة من فضيحة عالمية تحيط بالقساوسة المتحرشين بالأطفال وسيرا على نفس الموجة، كشفت دراسة لوزارة الدفاع الأميركية عن زيادة كبيرة في بلاغات الاعتداءات الجنسية في الأكاديمية العسكرية الأميركية في وست بوينت خلال العام الأكاديمي الماضي، كما أعلن الفاتيكان أن البابا فرنسيس يتابع باهتمام ملف التحرش الجنسي، مع استمرار معاناة الكنيسة من فضيحة عالمية تحيط بالقساوسة المتحرشين بالأطفال. ووصل صدى حملة مي تو إلى المجتمعات العربية. ولوقت قريب كان مجرّد الحديث عن هذا الموضوع الحساس في المجتمعات العربية نوعا من قذف المحصنات وتشويها لسمعة المجتمع، إلى أن جاءت الفضيحة الكبرى مع حادثة شارع جامعة الدول العربية بحي المهندسين في مصر في عيد الفطر 2007، والتي فتحت الباب واسعا للحديث عن “التحرش الجنسي” في المجتمعات العربية. أفاقت العاصمة المصرية على حادثة غريبة ومثيرة للاشمئزاز حيث هجمت مجموعة من الشبان على فتيات ونساء في مركز العاصمة ولم يكتفوا باستعمال الكلمات البذيئة والنابية، وإنما امتدت أيديهم لتمزق ملابس المارات. وفي دراسة ملفتة أعدها «المركز المصري لحقوق المرأة» تبين أن حوالي ثلثي الرجال المصريين من العينة اعترفوا بتحرشهم بالنساء، بينما أقرت 83 في المئة من نساء العينة، أنهن تعرضن للتحرش مرة أو أكثر. مع تلك الحادثة، بات يمكن الحديث عن التحرش في المجتمعات العربية وإن ظل بصوت خافت. وتتطلع النساء اليوم إلى حملة مماثلة لحملة مي تو لتحررهن من هذا الكابوس الذي يحاسب الضحية ويترك الجاني. وانطلقت النسخة العربية من مي تو من الضفة الغربية في فلسطين، بقيادة الشابة ياسمين مجلي التي اختارت أن تكون حملتها عن طريق بيع ملابس نسائية مكتوب عليها “لست حبيبتك” لتشجيع المجتمع الفلسطيني على مواجهة التحرش الجنسي. كما تفاعل الناشطون العرب في مواقع التواصل الاجتماعي مع حملة مي تو من خلال هشتاغ #أنا_أيضا، مشيرين إلى أن قضية التحرش من صميم مشاكل المجتمعات العربية. ولا تعني قضية التحرّش الجنسي فقط النساء بل هي قضية المجتمع والأسرة، وهي قضية حقوق الإنسان، سواء كان جسد امرأة أو رجل أو طفل. وهي تعكس نظرة تختزل الأنثى في زاوية جنسية تغيّب كيانها الإنساني والثقافي والاجتماعي.
مشاركة :