إن «الأجيال الجديدة تعلم أن قوة الأمم تكمن في تصالحها مع ماضيها وحاضرها، وفي حسن قراءتها لذلك الماضي والحاضر؛ حتى يسهل عليها بناء المستقبل بأفضل قدر ممكن من النجاح والتقدم»... بهذه العبارات خاطب الزعيم الاشتراكي المغربي عبد الرحمن اليوسفي الحضور الوازن من الشخصيات السياسية والدبلوماسية، التي حضرت حفل تكريمه، الذي أقيم مساء أول من أمس على مسرح محمد الخامس بالرباط، وذلك بمناسبة صدور مذكراته «أحاديث فيما جرى».وتؤرخ هذه المذكرات، التي أعدها رفيقه الاتحادي مبارك بودرقة، لمسار سياسي حافل، قاد أكبر معارض لنظام الملك الراحل الحسن الثاني لكي يتولى تجربة رئاسة التناوب السياسي التوافقي في بلاده عام 1998، في تجربة سياسية فريدة في العالم العربي خلال تلك الفترة.اليوسفي الذي كرم في يوم ميلاده الـ94، قال أيضاً في المناسبة، إن ما تتضمنه الأجزاء الثلاثة من مذكراته «هو بعض من خلاصات تجربة سياسية، شاء قدره أن يكون طرفاً فيها من مواقع متعددة، سواء في زمن مقاومة الاستعمار، أو في مرحلة بناء الاستقلال، وسواء من موقع المعارضة أو من موقع المشاركة في الحكومة»، وهي «تشكل جزءاً من إرث مغربي غني نعتز أننا جميعاً نمتلكه، عنواناً عن ثروة حضارية صنعتها أجيال مغربية متلاحقة»، مشيراً إلى أنها «ستكون بلا شك مجالاً لاشتغال أهل الاختصاص من علماء التاريخ والسياسة والقانون والاجتماع، مثلما ستشكل أيضاً مادة لتأويلات وتفسيرات إعلامية متعددة». من جهته، قال بودرقة: إن اليوسفي كان يرفض منذ سنوات كتابة مذكراته رغم إلحاح أصدقائه ومقربيه، لكن هذا لم يمنعه من أن يتحدث عما جرى للكثير من أصدقائه؛ ولهذا جاءت هذه المذكرات بعنوان «أحاديث فيما جرى».بدوره، تحدث فيليبي غونزاليس، رئيس الوزراء الإسباني الأسبق، عن اليوسفي رفيقه في منظمة الاشتراكية الأممية، وقال عنه: إنه «مقاوم كبير من أجل الاستقلال والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والوحدة الترابية لبلاده».وأعرب غونزاليس، الأمين العام السابق للحزب الاشتراكي العمالي الإسباني، عن اعتقاده أن الاشتراكية الديمقراطية ما زالت تشكل حلاً في ظل الأزمات الكبرى التي يشهدها العالم.أما الأخضر الإبراهيمي، الدبلوماسي الجزائري الأسبق، فقال إنه جمعته باليوسفي هواجس مشتركة حول المشروع المغاربي، الذي ما زال مطروحاً، وقضية فلسطين التي يتعين أن تبقى أم القضايا العربية، مشيراً إلى أن هذا الحفل التكريمي يشكل فرصة لمجموع محبي اليوسفي للالتفاف حوله، وأنه لا مناص من مواصلة الحلم، والسير على الطريق نفسها من أجل تحقيق الأمل المنشود للمنطقة المغاربية». من جهته، أشاد محمد فائق، الحقوقي المصري ووزير الإعلام في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، بخصال اليوسفي واصفاً إياه «بأنبل فرسان التحرير في العالم العربي والأفريقي، ولأجل ذلك جاء محبوه من أماكن كثيرة ليشاركوه حفل إصدار مذكراته».ترعرع اليوسفي وسط عائلة متعددة الأبناء والبنات، وكان والده المتزوج من سيدتين، يتقن الكثير من اللغات، وملماً بمبادئ الشريعة الإسلامية؛ وهو ما أهّله ليعمل وكيلاً معترفاً به لدى السلطات المحلية للدفاع عمن يطلبون خدماته للإنابة عنهم أمام القضاء، وقد فارق الحياة في السنة التي حصل فيها اليوسفي على الشهادة الابتدائية، لتبدأ مكابدة أمه معه ومع إخوانه، لكن معاناتها معه، وباعترافه هو شخصياً، كانت هي الأكبر، نتيجة غيابه الطويل والمتكرر عنها.يذكر اليوسفي أنه بعد سنوات المنفى الطويلة في الخارج، التي اعتبر نفسه ضحية لها، استقبل الملك الراحل الحسن الثاني في القصر الملكي، في نهاية السبعينات من القرن الماضي والدة اليوسفي، وتناول معها الشاي، وقبل انصرافها سألها إن كانت في حاجة إلى أي شيء، لتجيبه بلهجتها الطنجاوية «بغيت ولدي» (أريد ولدي)، فأجابها الملك: «يمكن لابنك أن يعود إلى بلده متى شاء، والوطن سيرحب به»، وفي هذا السياق، قال اليوسفي «ظلت أمي متشبثة بالحياة إلى أن عدت سنة 1980، بعد غياب دام 15 سنة لتنتقل إلى عفو الله سنة 1981».أدى اليوسفي «ضريبة النضال» على صحته من خلال مخلفات السجون، وقد أجريت له نحو منتصف الخمسينات من القرن الماضي عملية جراحية في مدريد استأصل فيها الطبيب نصف رئته اليمنى، فعاش من حينها بنصف رئة إلى اليوم.يستعرض اليوسفي في مذكراته مجمل الأحداث السياسية والحزبية، التي كان المغرب مسرحاً لها خلال الفترة الاستعمارية، وبعد الاستقلال، متوقفاً عند كل المحطات المفصلية في تطورها من خلال علاقته مع الزعماء السياسيين، أمثال عبد الرحيم بوعبيد، والمهدي بنبركة وغيرهما، وما واجهه من متاعب جراء محاكماته واعتقالاته.ولأن أول حكومة للتناوب الديمقراطي شكلت تجربة استثنائية خاصة في مسار المغرب السياسي المعاصر، فقد خصها اليوسفي بحيز وافر من مذكراته، وهو الذي قادها منذ أن كلفه الملك الراحل الحسن الثاني بتشكيلها، بعد تعيينه وزيراً أول في الرابع من فبراير (شباط) 1998، بعد أن نوه به وبكفاءته. ونظراً لما كانت تجتازه قضية الصحراء المغربية في مجلس الأمن، فقد عبر الملك الحسن الثاني عن الحاجة إلى بقاء إدريس البصري، وزير الداخلية آنذاك، وعبد اللطيف الفيلالي، وزير الخارجية في منصبيهما، تاركاً لليوسفي حرية اختيار باقي أعضاء الفريق الحكومي. وقبل وداعه اقترح عليه أن يلتزما معاً أمام القرآن الكريم على العمل لمصلحة البلاد: «وأن نقدم الدعم لبعضنا البعض».يحكي اليوسفي، أنه عند بدء الاستشارات الأولى لتكوين حكومة التناوب، تم توفير شقة له من طرف أعضاء حزبه بحي أكدال في الرباط لعقد اللقاءات المتعلقة بالمشاورات، لكن سرعان ما تم اكتشاف أجهزة للتجسس وتسجيل محتوى المشاورات داخل الشقة، وبالتالي تم التخلي عنها، واللجوء إلى أماكن أخرى متعددة للغرض نفسه. وقد ضمت الحكومة وقتها عدداً من الوزراء صحافيين، وقال اليوسفي، إن أحد الزملاء علق على هذه الظاهرة بقوله «إننا سعداء جداً لأن العالم العربي، وبعد حكم الجنرالات، جاء دور الصحافيين ليكونوا في الحكم، كما أنهم نشطاء في حقوق الإنسان». وكانت المعركة حول الإعلام من أشرس المعارك، التي تمت فيها المواجهة مع البصري، حسب تعبيره، لدرجة أن محمد العربي المساري، وزير الاتصال آنذاك، قدم استقالته مرتين، وتراجع عنها بعد النقاش معه، وحثه «على الاستمرار في مواجهة جيوب المقاومة».في7 نوفمبر (تشرين الثاني) 1999، جرت مكالمة هاتفية بين الملك محمد السادس واليوسفي، الذي كان موجوداً آنذاك خارج المغرب، ليخبره بقرار إقالة إدريس البصري من منصبه وزيراً للداخلية، وهو ما تم بالفعل يوم التاسع من الشهر نفسه. وبعد أن تحدث عن الجهود التي بذلتها أول حكومة للتناوب التوافقي، والمسار التي سلكته في ترسيخ الخيار الديمقراطي، ومنها إجراء الانتخابات التشريعية يوم 27 سبتمبر (أيلول) سنة 2002، وكانت أول استحقاقات انتخابية في عهد الملك محمد السادس، بطريقة «نزيهة غير مطعون فيها»، وحصول حزبه (الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية) على المرتبة الأولى، التقى العاهل المغربي وعرض عليه تقديم استقالته من الوزارة الأولى حتى يتمكن من تعيين الوزير الأول، الذي سيتولى تدبير المرحلة المقبلة.وعقب ترؤس الملك المجلس الوزاري في التاسع من أكتوبر (تشرين الأول) 2002 بمدينة مراكش، وكان آخر مجلس وزاري لحكومة التناوب التوافقي، استقبله الملك ونوه بالمجهودات التي بذلها خلال تحمّله مسؤولية الوزارة الأولى، سواء في عهد والده الراحل الحسن الثاني، أو خلال العهد الجديد، رغم حالته الصحية التي لم تحل دون إنجاز الكثير من المشروعات الكبرى، قبل أن يعفيه من المسؤولية، ويخبره بقرار تعيين إدريس جطو على رأس الوزارة الأولى.يقول اليوسفي، إنه شكر الملك على تلبية رغبته في إعفائه من المسؤولية، نظراً لظروفه الصحية، وعبّر له عن أن الدستور الحالي (1996) يمنحه حق تعيين من يشاء وزيراً أول، «لكن المنهجية الديمقراطية تقضي تعيين الوزير الأول من الحزب، الذي احتل المرتبة الأولى في عدد المقاعد البرلمانية، كما أسفرت عنها الانتخابات التشريعية الأخيرة، وهو حزب الاتحاد».ورغم انسحاب اليوسفي من الحياة السياسية، فإنه يؤكد أن «حبل التواصل» مع عاهل البلاد ما زال مستمراً، حيث يستدعيه للمشاركة في أفراح العائلة الملكية، أو بعض اللقاءات الرسمية، أو مع بعض الرؤساء والأصدقاء المشتركين، وفي بعض الحالات مع عائلته الصغيرة.
مشاركة :