هناك مقولة يتداولها كثير من الكتّاب في تقييمهم للنقاد، فيصفون الناقد بأنه كاتب فاشل، أو مشروع كاتب فاشل لم يكتمل بسبب قصور في أدواته الأدبية، فاكتفى بأن يكون ناقدًا لأعمال الكتاب الذين كان يتمنى أن يكون واحدًا منهم. هذه المقولة التي تشاع عن النقاد ليست صحيحة على إطلاقها، هذا إذا فرضنا صحتها، فالنقد موهبة لها أدواتها وشروطها مثل كتابة القصة أو الرواية موهبة لها أدواتها وشروطها، ولماذا لا يكون الناقد كاتبا يملك أكثر من رؤية للنص الأدبي الواحد، وله موهبة قد لا يملكها الكاتب نفسه، وذلك في سبر أغوار النص الأدبي، وقد يقدم رؤية جديدة لم ترد على خاطر الكاتب نفسه، وربما يقف هذا الكاتب مندهشًا من هذه الرؤية الجديدة. إذن، فالناقد ليس كاتبًا فاشلاً، أو مشروع كاتب فاشل كما يشيع عنه بعض الكتاب، هذا إذا سلمنا بصحة هذه المقولة الشاذة، وربما تكون إشاعة مثل هذه المقولة الجائرة سببها عدم رضا الكاتب عن نقد أحد أعماله الأدبية بقلم هذا الناقد أو ذاك، فإنه يتهم الناقد بهذه التهمة، وكأنه يعاقبه، ويسفه من رؤيته النقدية لئلا يُتهم عمله الأدبي بالقصور أو السطحية، أي أن دافع من يروج لهذه المقولة التي تحط من قدر الناقد هو في الواقع دفاع هذا الكاتب أو ذاك عن نصه الأدبي، ونقول لأمثال هؤلاء الكُتاب إن الناقد يمثل عنصرًا مهمًّا في العملية الإبداعية بغض النظر عن رؤيته للنص الأدبي الذي ينتقده، وحين لا يرى الكاتب نقدًا لكتابه، أو لنصه الأدبي يشعر بالإحباط، ويظن أن عمله وإبداعه لا يلقى القبول الحسن من النقاد، وربما يكون نقد الناقد للنص الأدبي يفتح أبوابًا من الإبداع يكون من ثماره عمل أدبي جديد. إذن، فنستطيع أن نقول ودونما أن يتهمنا أحد بالانحياز إلى الناقد: إن الناقد مبدع مستقل له أدواته الإبداعية الخاصة به، وأنه ليس ثمرة مشروع كاتب فاشل كما يروج بعض الكُتاب، وأن للناقد سفنه التي يشق بها بحر الإبداع ليصل إلى الغاية التي يريد والحلم الذي يتمنى تحقيقه. الناقد إذن مبدع مستقل وليس له صلة بغيره، وكل صلته بالكاتب نصه الأدبي موضوع النقد، وأنه يُعْمِل أدوات الجراحية في هذا النص ليستأصل قبحًا هنا، أو يبرز جمالاً هناك، أو خللاً في ربط الأحداث والخلوص منها إلى نتيجة منطقية تجعل للعمل الأدبي عطاءه الذي يرجوه كاتب النص، وقراء هذا النص الأدبي، وقد يضيف الناقد إضافات جديدة لم يتوخاها الكاتب حين أبدع نصه الأدبي، وينبغي عليه أن يقدِّر عمل الناقد لأنه أضاف جمالاً على نصه الأدبي، أو خلصه من قبح لم يلتفت إليه الكاتب، وهو متلبس بحالة الإبداع التي هي خروج على المألوف، وربما لو قرأ الكاتب نصه الأدبي بعد الانتهاء منه لاكتشف ذلك الجمال، أو هذا القبح قبل أن يدفع عمله إلى الناس، ولكن في الغالب يحرص كثير من الكُتاب على أن يبرزوا محاسن نصوصهم الأدبية، ويستروا عيوبها، فإذا جاء الناقد المبدع، ورأى في النص الأدبي ما لم يره الكاتب، أو أخفاه عن الناس، فإن الكاتب في هذه الحالة، وفي سبيل الدفاع عن نصه الأدبي الذي هو بمثابة الابن الشرعي الذي ينتسب إليه، ولا يرضى الواحد منا أن يشار إلى بعض الصفات القبيحة في ولده، أو في نصه الأدبي، فَيُلقي باللائمة على الناقد، ويتهمه بالقصور أو السطحية، وقد يكون هذا في كثير من الأحيان مجافيا للحقيقة. إذن، فالصراع سيظل محتدمًا بين النقاد والكُتاب في ساعة الرضا وفي ساعة السخط، وقليل منهم من يكون موضوعيا، فيرى الكاتب مثلاً نصه الأدبي من منظور الناقد، ويرى الناقد النص الأدبي من منظور الكاتب صاحب النص الأدبي الذي ينقده، وحين يضع كل من الكاتب والناقد نفسه مكان الآخر تتخلص العلاقة بين الكاتب والناقد من سوء الظن، ويقدم كل منهما -الكاتب والناقد- نصًّا أدبيات موشيًا بقيم الإبداع والرؤية الموضوعية. أيضًا يجب أن يتخلص الكاتب من عقدة الأنا، وأن يقدم نصًّا أدبيا خاليًا من العيوب أو القصور، وعلى الناقد أيضًا أن يتخلص هو بدوره من الاعتقاد الخاطئ أن نقده ليس عليه معقب، وأن رؤيته للنص الأدبي هي الأصوب وهي الأكمل. إذا سلم الطرفان من هذه الأمراض المستشرية بين بعض الكُتاب والنقاد استقام النقد وسلمت الصدور من الإحن والحساسيات. إن الكاتب والناقد ينتميان إلى أسرة واحدة، وقد يحدث بين أفراد الأسرة الواحدة ما يكدر صفوها، ولكن هذا الكدر أمر طارئ عليها سرعان ما تعود العلاقات بعد ذلك إلى صفائها القديم، وتسلم الصدور من أسباب الخصومات، ويعي الجميع أن من مصلحة الكُتاب والنقاد أن يلتئم شملهم حول غاية واحدة هي تقديم نص أدبي فيه من الإبداع والعمق ما يساهم في دعم الحركة الأدبية، وأن يكون هذا النص قريبًا من الكمال المنشود لأن الكمال المطلق هو لله تعالى وحده، ولم يمنحه أو يهبه لأحد من خلقه، فقد يكون الكاتب مبدعًا في هذا النص ولا يكون كذلك في نص آخر، وهذا هو التوفيق الذي ليس حكرًا على كاتب بذاته، ومحروم منه كتاب آخرون، وإنما هو هبة من الله تعالى يبسطها لبعض عباده ويقبضها عن بعض عباده حتى لا يصاب الكاتب المبدع بالغرور والاستعلاء وذلك حين يرى عمله أو يراه الآخرون عملاً متقنًا، أو خاليًا من العيوب، وصدق الله العظيم: «ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير» الشورى/27. الإبداع الأدبي رزق يسوقه الله تعالى إلى المبدعين من عباده ويقدر حتى لا يصابوا بالغرور فيتعالوا على غيرهم، ومعلوم أن من أسباب الطغيان على الناس في كل شأن من شؤونهم هو الاستغناء عنهم، قال تعالى: «كلا إن الإنسان ليطغى(6) أن رَآه استغنى(7) إن إلى ربك الرجعى (8)» العلق. هذا هو ديدن الإنسان حين يشعر بالاستغناء عن الآخر، وهذه هي فطرته التي جبل عليها إن لم يهذبها بالإيمان الصادق، واليقين الثابت. إذن، فخلاصة القول أن المقولة التي يشيعها بعض الكتاب عن النقاد بأن الناقد مشروع كاتب فاشل ليست صحيحة، ثم إن الناقد -كما سبق وأن أشرنا- له أدواته التي يتميز بها عن الكاتب، وله قدراته الخاصة به في سبر أغوار النص الأدبي ليكتشف في النص الأدبي ما لا يقدر الكاتب على اكتشافه بنفسه، وفي هذا خدمة للنص الأدبي ولكاتبه.
مشاركة :