بدل جي دي مو باسان عشقه للبحر بعشق نهر السين الخالد، الذي كان يخرج إليه في نهاية الأسبوع ليمضي وقته في السباحة والتأمل والاستلهام. بل هو وجد أسراره في النهر- كما أعترف - ووجد فيه ما لم يجده في البحر وشاطئه الكئيب، فأسر (للسين) بهمومه وآلامه وما عاناه من وحدة ووحشة وكآبه. كانت أم جي لا تعشق إلا روح أخيها الذي كان مثالها النادر في الإبداع وكان تأثيرها بموهبته الشعرية واضحا ومسيطرا على حياتها، لذلك أخذت من روحه الملهمة الشئ الكثير، وزاد من مخاوفها على أبنها، أنها لا تريده أن يعيش كما عاشت حياة مأساوية مع أبيه، وحزنها الشديد لموت أخيها وهو في مقتبل العمر، عَمّقت تلك المأساة أحزانها وجعلت حياتها أكثر تعقيدا، لذلك عاشت أم جي متفانية من أجل إسعاده، وجاهدت جهادا كبيرا لتبعده عن حياة أبيه الصاخبة، خوفا من تأثره بأخلاقه الماجنة وسلوكياته السيئة، كما حرصت على زرع الثقة فيه وفي مواهبه، فكان من الطبيعي أن يتأثر بطباع أمه ويرث مواهب خاله، وهو ما جعله واسع الخيال ملهم الفكر. صادقا في إبداعه،متميزا في تجربته كتاباته. وأدرك موباسان هدف أمه فحقق أملها فيه،وقد رأت مستقبل أخيها الغائب يتجسد في أبنها الوحيد بكل طموحاته وتطلعاته، لذلك أحب موباسان أمه وتعلق قلبه بها. وللبحر أثره في حياة موباسان، كان ذلك واضحا من عشقه له منذ طفولته، وقد ترعرع على شواطئ النورماندي، ولم يكن عشقه وتعلقه له، بالقدر الذي عشقه همنجواي حتى الجنون، وإن كان كلاهما انتهى نهاية مأساوية شواطئه! وبدا واضحا تأثر موباسان بشاطئ النورماندي في معظم أعمال موباسان وإبداعاته. كان الصيد في الليالي المقمرة من أحب هواياته، فقد كان وهو يرمي بسنارته في البحر،يرمي معها همومه وأحزانه جاء في بعض مذكراته قوله : " في عروقي دم عشاق البحر وصيادوه، وليس أحب إلي من أن أستقل قاربي في فجر ربيعي هادئ، فأتجه بأحلامي وأوهامي نحو الموانئ المجهولة أصطاد النشوة والسعادة !" لم يكن جي دي موباسان موفقا في تحصيله العلمي، إذ أخفق لسنوات عديدة حتى فصل من مدرسته لكثرة غيابه وشغبه، وعرف بمزاحه الثقيل ومقالبه الساخنة لزملائه، فكان يتنكر لهم مرة في زي إمرأة، وفي الأخرى يتخفى في عباءة قديس أوزي راهب، ليمارس معهم هوايته في صنع المقالب. كان ذلك سببا في دخوله مدرسة لاهوتية دينية، حين اضطرت أمه لإصلاحه وإبعاده عن حياة أبيه الصاخبة، رغم أنه كان يدرك أنه لا يرغب في أن يصبح راهبا أو قسيسا، ولكنه أراد أن يساير أمه ويلبي رغباتها. اعترف "جي" بعدم قدرته على فراق السين، وكيف كان يحلو له مناجاته حتى بزوغ الفجر، وفي قصته (ضوء القمر)، نجده يعبر عن مشاعره وما يكنه لنهر السين من عشق حيث يقول:(آه ما أروع هذا النهر الهادئ الوديع، فحين أجدف بقاربي وأستحم في أعماقه، تمتلئ نفسي بأحلامه، وقد اعتادت الضفادع النهرية والجرذان رؤية مصباح قاربي في ظلمة الليل الحالك، كما أعتاد أصحابي بحارة (البورجيفال) مفاجأتهم بظهوري بينهم في منتصف الليل).
مشاركة :