من الضروري جداً الاستماع إلى خطاب «حالة الأمة» الذي ألقاه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أو أقله قراءة مضمونه. ويُعدّ الخطاب الذي ألقاه بوتين في معرض مانيج في موسكو، في الأول من آذار (مارس) الماضي، بمثابة الحدث التاريخي، وليس فقط لأنّه خطاب يلقيه الزعيم الروسي سنويّاً، أو لأنه أول جهد جدّي يبذله رئيس البلاد الحالي في سياق حملته الانتخابية، قبل أقل من ثلاثة أسابيع من موعد الاقتراع في 18 آذار (مارس) 2018، وليس لأنه يكشف النقاب عن برنامجه الانتخابي– فمن يستطيع، على أرض الواقع، أن يفكر في منافسة بوتين جدّياً؟- بل لأنه في هذا الخطاب، كشف فلاديمير بوتين عن البرنامج الذي سيطبّقه على امتداد عهده الرئاسي الجديد، في السنوات الست المقبلة. في التوقعات التي أطلقها الرئيس الروسي في خطابه، تبدو روسيا شديدة الاختلاف عن العالم المحفوف بالمخاطر من حولها، بأسلحته النووية، والمنافسة الجيوسياسية الطاغية عليه، والخطر الفعلي باندلاع حرب عالميّة. في الجزء الأول من خطاب فلاديمير بوتين، كرّر أموراً بديهية، مفادها أنّ روسيا دولة عظيمة، لكنّها تتمتع بقدرات أكبر، وبأنه لا بد لروسيا أن تطوّر تكنولوجيات ولا تعتمد على صادرات المواد الخام، وبأن روسيا بحاجة إلى «توسيع نطاق الحرّيات في جميع المجالات، وإلى تعزيز مؤسساتها الديمقراطية، وحكوماتها المحلية ومحاكمها». إلى ذلك، دافع عن سجل إنجازاته منذ .... العام 2002، حيث انتقاه بوريس يلتسين المريض شخصيّاً ليخلفه وفقاً لأفضل التقاليد السوفياتية، وفي العام 2000، كان 30 في المئة من الشعب الروسي يعيش في حالة من الفقر المدقع، وفي العام 2012، تراجعت هذه النسبة إلى 10 في المئة، مع أنّ عدد الفقراء تضاعف منذ ذلك الحين «على خلفية الأزمة الاقتصاديّة». ووعد بوتين أيضاً بزيادة الحد الأدنى للأجور، وبزيادة إجمالي الناتج المحلّي الروسي بنسبة 50 في المئة، وبجعل روسيا من بين الاقتصاديات الخمس الأكبر في العالم، وكذلك بتحويل المدن والقرى، وبتحديث البنية التحتيّة، وباستثمار 4 في المئة من إجمالي الناتج المحلي في الرعاية الصحية، وببناء مزيد من الطرقات، وبإرساء الإنترنت العالي السرعة، وكذلك بنفض المدن العلمية السوفياتية القديمة لتطوير قطاع التكنولوجيا والروبوتيات وحزم البيانات الضخمة، إلخ... كان هذا كلّه مقدّمة. أمّا القسم الثاني من الخطاب، فاتّخذ وجهة مختلفة، حيث تحدّث بوتين عن التدخّل العسكري الروسي في سورية وكأنّه يتناول موضوعاً على صلة بتطوير البلاد، أو يعرب عن ترحيبه بزيادة إنتاج المعامل أو بارتفاع إنتاج القطن: «لقد أثبتت العملية في سورية زيادة قدرات القوى المسلّحة الروسية (...) والآن، يزيد عدد أسلحتها الحديثة بـ3.7 مرّات»، فضلاً عن امتلاكها 80 صاروخاً بالستياً جديداً عابراً للقارات... و102 صاروخ بالستي تطلقه الغواصات... لتتحوّل سورية بالتالي إلى فسحة استعراضية للجبروت العسكري الروسي: «تعرف روسيا، والعالم أجمع، أسماء أحدث طائراتنا وغواصاتنا وأسلحتنا المضادة للطائرات»، إلخ... بعد ذلك، كرّس الزعيم الروسي مجالاً واسعاً للافتخار بأحدث أنظمة الصواريخ البالستيّة الروسيّة، وكأنّه يلقي خطاباً يعود إلى حقبة الحرب الباردة. وبرّر السباق الجديد إلى التسلّح باعتباره رداً مباشراً على الانسحاب الأميركي «الأحادي الطرف» من معاهدة الصواريخ المضادة للباليستية (المبرمة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي سنة 1972). وتحدّث عن أنظمة صواريخ مزوّدة برؤوس نوويّة تفوق سرعة الصوت، قادرة على قصف أهداف على مسافة 11 ألف كلم، وتبقى أنظمة العدوّ عاجزةً أمامها. ولا شكّ في أنّ الانبهار ساد حيال الآلات والتكنولوجيا، تماماً كما حصل مع مخططي الحرب الأميركية الذين أرسلوا جيوشهم لاجتياح العراق سنة 2003. وأنهى بوتين خطاب النصر الذي كان يلقيه قائلاً: «لم يُصغوا إلينا آنذاك. فهيّا أصغوا إلينا الآن». بالطبع، تكثر الانتقادات المشروعة التي يمكن لبوتين والرأي العام الروسي توجيهها للقيادة الأميركية. فبعد انتهاء الحرب الباردة، لم يبادر الزعماء الأميركيون الذين توالوا على الحكم لمساعدة الجمهورية المستقلة الجديدة، كما وأنهم لم يستبدلوا حلف شمالي الأطلسي– بصفته تحالفاً عسكرياً مناهضاً للسوفيات– بتدبير أمني جديد قادر على ضم روسيا وعلى إرساء السلام في أرجاء «القارة القديمة». بيد أن متابعة الانتخابات الروسية قد تمنح المرء انطباعاً بأن الخطاب المناهض للأميركيين هو طريقة لإسكات النقاش حول الخيارات السياسة الروسية. ففي البدء، لا يسع أيّاً كان إطلاق التساؤلات حول موضوع عدم تمكّن النظام السياسي الروسي من إطلاق أيّ قادة جدد. ومع انتهاء ولاية بوتين المقبلة، سيكون هذا الأخير قد ترأس البلاد لأربعة وعشرين عاماً (من 2000 إلى 2024)، لتفوق هذه الفترة حقبة حكم القيصر الروسي الأخير نيقولا الثاني (1896 – 1917). وعلى الرغم من كلّ ما يقال، يبقى الاقتصاد الروسي معتمداً على صادرات النفط والغاز ومواد خام أخرى، وهو أمر لا يحفّز التقدّم التكنولوجي. كما وأنّ الاستفراد بالسلطة الراهن لا يشجّع على المشاركة وعلى إضفاء طابع ديمقراطي، في حين أنّ الرقابة الإعلاميّة لا تشجّع التقويم الشفاف للدعاية الحكومية، ناهيك عن أن البيروقراطية الروسية نمت إلى حدّ كبير لتتعدّى بحجمها البيروقراطية السوفياتية، وأنّه في أعقاب «فترة انتقالية» مستمرة من 25 عاماً، لا بدّ لروسيا أن تضفي طابعاً ديمقراطياً على نظامها القضائي وأن تعمل على إصلاحه. إلى ذلك، لا يسع أياً كان التحقيق بجدّية في مزاعم القوة العسكرية الروسية ، فالواقع يشير إلى أنّ الحروب الثلاث التي خاضتها روسيا في عهد بوتين– حرب الشيشان الثانية، وحرب جورجيا، وحرب سورية– كانت موجّهة إمّا ضدّ دول أضعف منها أو ضدّ انتفاضات، وأظهرت جميعها بوضوح الضعف العسكري الروسي. إلى ذلك، كانت نتائج المواجهة الأخيرة بين الجيش الروسي والقوات الأميركية في شمال سورية كارثيّة بالنسبة إلى الطرف الروسي. لكنّ أياً من هذه المسائل، ولا حتّى الكارثة الأوكرانيّة أو عدد الضحايا الروس في الحرب السوريّة، لن يناقَش خلال الحملة الرئاسيّة الروسيّة الراهنة. يفيد المثل الأميركي بأنّ «السياسة كلّها محلّية». بيد أّن الانتخابات الروسية للعام 2018 تشير على ما يبدو إلى العكس تماماً، وتؤكد بأن الانتخابات في روسيا هي مسألة جيوسياسية بالكامل!
مشاركة :