لم تفلح جهود مؤسسات المجتمع المدني وحتى الرسمي كلها على مدى العقود الأربعة الماضية، في إنهاء الإفرازات السلبية للقانون العشائري المُلغى في الأردن منذ سبعينات القرن الـ20. وعلى رغم محاولات هذه الفاعليات اقتصار «الجلوة العشائرية» التي تعدّ من أهم أركان القانون العشائري، على أشقاء القاتل ووالده فقط وليس (خمسة القاتل) أي أقاربه من خمسة جدود، إلا أن ذلك لم يجد طريقه إلى التطبيق، ما يتسبب في بقاء مئات الأسر مشرّدة عن بيوتها وقراها شهرياً، بذنب اقترفه أحد أقاربهم، والذي غالباً لا يعرفونه. فبعد اتفاق عشائر في اجتماعات متتالية عقدت أخيراً على اقتصار الجلوة على أشقاء القاتل ووالده كعُرف جديد، إلا أن الأمر بقي حبراً على ورق، خصوصاً أن «جلوة» حدثت أخيراً في محافظة الكرك (150 كلم جنوب العاصمة عمّان) طالت أقارب الخمسة جدود لشخص قتل آخر من عشيرة أخرى، خلال مشاجرة مسلّحة. ويبرر الشيخ العشائري جهاد الزغول استمرار العمل بالجلوة العشائرية في الأردن، بأن «وقت وقوع جريمة القتل يكون الوضع متوتراً وأعصاب الناس مشدودة ومتأثرين، لذا يجب إبعادهم عن بعضهم بعضاً خوفاً من تطوّر المشكلات وحصول مضاعفات، إذ لا يعقل أن يُقتل شخص من عشيرة معينة ويبقى أقاربه في موقعهم أمام جماعة المقتول». ويوضح أن «هذا ما يسمــّى فورة الدم التي ربما تُرتكب بها جرائم أخرى كبرى بسبب الجريمة القتل الأولى» . وما يساعد على قوننة «الجلوة» ما يمنحه قانون منع الجرائم للحكام الإداريين عند تطبيق إجراءاتها، والتي تبدأ بعطوة «فورة الدم»، وهي هدنة تؤخذ فور وقوع الجريمة، ومدتها ثلاثة أيام وثلث اليوم، تليها العطوة الأمنية التي قد تمتد من ثلاثة أيام وثلث اليوم إلى ثلاثة أشهر، ثم تأتي بعد ذلك عطوة الإمهال، ثم عطوة الصلح وهي آخر المراحل التي تُنهي النزاع بين أهل الجاني والضحية، ما يعني أن القانون العشائري على رغم إلغائه رسمياً قبل أربعة عقود، لا يزال يحكم في جرائم القتل وهتك العرض في الأرياف والبوادي. ويؤكّده المحامي المدني محمود قوقزة، خلال ورشة حول القانون العشائري عقدت في عمّان أخيراً، أن «المحاكم المدنية لا تزال تأخذ في الاعتبار الصلحة العشائرية عند الحكم على الجناة. فالقاضي المدني يصدر الحكم على القاتل بالإشارة الى نتيجة تلك الصلحة التي تتم بين أهل الجاني والمجني عليه. وبناء عليها قد يخفف الحكم عن القاتل إلى ما دون نصف المدة (من 7 إلى 12 عاماً)، بينما يحكم على الجاني في مثل تلك الجرائم التي لا يتدخّل فيها القضاء العشائري بالسجن 25 عاماً». ويُلاحظ أن 4 من كل 10 قضايا يُبت فيها عشائرياً تنتهي بالثأر من قبل أهل المجني عليه لاعتقادهم أن الأحكام لم تنصفهم، أو أن «الصلحة» تمت بناء على منافع بين القضاة أنفسهم. وتتفاوت هذه النسبة بين منطقة وأخرى بناء على حجم تأثير شيوخها على أبناء العشائر، وفق ما يُستنتج في ضوء حوارات مع قضاة عشائريين. «لا يمكن وصف المعاناة التي وقعنا فيها فجأة ومن دون أن نتمكن من حمل حتى ملابسنا تحت ذريعة الخشية من فورة الدم»، يقول أبو أحمد وهو اسم مستعار لرب أسرة، اضطر أن يُجلي مع أسرته وأقاربه أخيراً إلى محافظة مادبا (30 كلم جنوب عمّان). ويكشف أن الأجهزة الأمنية طلبت منه ذلك بالسرعة الممكنة تحت حراسة أمنية، خوفاً على حياتهم، من دون أن يعلم ماذا حدث. ولكنه توقع أن يكون أحد أفراد عشيرته قتل شخصاً من عشيرة أخرى تسكن القرية. ويضيف أبو أحمد، الذي يعمل معلّماً في مدرسة رسمية في الكرك، واضطر إلى السكن في منزل متهالك بأجره شهرية، أنه تغيّب عن وظيفته مدة أسبوعين إلى أن تمّ نقله إلى مدرسة في مادبا، بينما تغيّب أولاده وبناته الأربعة عن أعمالهم وجامعاتهم فترة مماثلة حتى وجدوا البديل. أما أبو صهيب فيتحدّث عن المعاناة التي أصابت أسرته، بعد أن اضطر إلى السكن في بيت فارغ يخلو من أدنى مقوّمات الحياة، باستثناء بضع وجبات ساخنة وفّرتها لها الأجهزة الأمنية على مدى أيام، إضافة إلى مستلزمات إغاثية من فرشات وبطانيات وأوان مطبخية. ويؤكّد أنه وأسرته يعيشون حالة اللجوء داخل وطنهم، بذنب اقترفه شاب من عشيرته لم يلتقِ به يوماً، ويتصل بقرابته به في الجد الخامس، ما يعني أن هناك المئات من الأقارب بينهم. ويضيف أن الأيام والأشهر الأولى من الجلوة كانت صعبة للغاية، «فقد تفرّقت عن أشقائي وأبناء عمومتي الذين اضطروا إلى السكن في مناطق مختلفة، تبعاً لتوافر منازل فارغة ومعروضة للإيجار، وهي مسألة صعبة في هذه الظروف بالذات بسبب لجوء آلاف الأسر السورية إلى هذه المناطق أصلاً».
مشاركة :