فنان لبناني يرسم رحلة مفككة الأوصال في عين القمر

  • 3/16/2018
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

بيروت – قدّم الفنان اللبناني فرانسوا سورغولوغو أعماله التي احتضنتها صالة “جانين ربيز” البيروتية والمعنونة بـ”أمبير بيروت”، أو “إمبراطورية بيروت”، بنص توضيحي ردّ الأعمال مستديرة الشكل والمعلقة على جدران الصالة إلى ما سمي بـ”صندوق الفرجة”، وهو باختصار شديد صندوق غالبا ما كان خشبيا ومستطيلا يحتوي على صور وغرائب القصص من التراث العربي كقصص عنتر وعبلة والسندباد البحري. وفي وسط الصندوق، الذي كان يهرع إليه الأولاد والكبار على السواء، دائرة زجاجية يضع فيها المُتفرج عينيه فتكبر له الصور المُتعاقبة التي ينظر إليها، غير أن صندوق العجائب الذي شيّد صوره الفنان سورغولوغو على جدران الصالة الفنية يستقي صوره وقصصه من ذاكرة الحرب وما بعد الحرب اللبنانية شبه الممحية. وجاء الغرائبي في نجدة هذا الإمحاء العشوائي والانتقائي كما في كل تفاصيل الذكريات الدامغة، ليرمّم ويعيد تشكيل ما فُقد، ولكن وفق منطق خاص ليس هو بسريالي ولا هو بغرائبي، بقدر ما هو منطق أفرزته ذاكرة مثقلة اختلطت فيها كل الصور وكل الأزمنة، فجاءت في كولاج عجائبي بلون الرماد ظهر في أعماله كأنه واقع عادي لا يدعو إلى الاستغراب بشيء. ولكي يشيد الفنان عالمه “الواقعي” هذا والخاص جدا استخدم صورا شخصية من ألبومات عائلته وصورا أخرى لممثلين عرب من الخمسينات من القرن الماضي، وصورا أخرى لأشخاص من زمن غابر هم مجهلون تماما بالنسبة إليه، كما استعان بقصاصات لصور مناطيد وصواريخ ومبان قديمة وصور وعصافير وأسياج وأشجار نخيل.  صالة “جانين ربيز” الفنية في بيروت قدمت الفنان اللبناني ومتعدّد الوسائط فرانسوا سورغولوغو من خلال معرض تحت عنوان “إمبراطورية بيروت”، والمعرض كباقي معارض الفنان لم يخرج عن المضمون الذي حرك جميع معارضه السابقة، وهو منطق مبني على دور الذاكرة ما بعد الحرب اللبنانية وأثر أشكالها في عقل وقلب صاحبها، وبالتالي صداها المتنوع في كل من نظر إليها ومعظم صور ورسومات الأشخاص الذين ظهروا في أعمال سورغولوغو بدوا منخرطين في أعمال بهلوانية كالمشي على أسلاك رفيعة، أو اعتلاء غيمة، أو ركوب مناطيد وصواريخ تأخذ مسارها الغامض في خلفيات، هي خارج الزمان والمكان إلاّ من ومضات تمسك بخيطان خيال الناظر إلى اللوحات وفق توجهات “بوصلية” تخفف من وطأة الضياع في عالم اللا عالم. وأعماله تلك من الناحية التقنية تضافرت فيها العديد من المواد والأساليب كالحبر والرسم والمواد الأسيدية والرمل والبنّ، لتحتفظ كلها بلون رمادي يذكّر بأول الشرائط السينمائية التي جرحها مرور الزمن. والإمبراطورية البيروتية التي شيد الفنان مرافقها الضائعة في غيم متلبد هي عن انهيار عاصمة جاءت في أشكال بناء متقطع الهيئة ينفي دماره بشراسة، نفي جعل بعض الأعمال كريكاتورية مؤلمة، ودرامية غرائبية في أعمال أخرى، وتردّنا محاولة استعادة الذاكرة بالوسائط الفنية غزيرة التنوع دوما إلى فكرة ذاكرة الحرب المطموسة التي أدت كأي جرح لم يتم تطهيره إلى الكثير من الالتهابات والمضاعفات. وإن كانت لم تستمر هذه المحاولة لاستعادة ما جرى فعلا، خلال وبعد وربما قبيل الحرب إلى يومنا هذا، لما كانت ولا تزال تفرز هذه المحاولة أعمالا فنية رست سفنها المُسلخة بالطحالب البحرية في مرافئ وهمية بين تلاطم أمواج الذاكرة، أمواج كثر فيها الملح حتى تكثفت فيه بلورات ساطعة، ولكن عاجزة عن فتح حقل البصر إلى ما قد يكون خارج لحظة تلك الإرساءات الوهمية، التي باتت جغرافيا الوطن المتعايش مع أوهامه. وبالرغم من أن فرانسوا سورغولوغو استوحى معرضه هذا من فكرة “صندوق العجائب”، الذي اعتبره الكثيرون الأب الشرعي للسينما، غير أن زائر المعرض لحظة دخوله إليه سيعود إلى ذاكرته فيلم “رحلة إلى القمر” للفرنسي جورج جان ميليس المتوفى سنة 1938، والمعروف عنه، وباختصار شديد، أنه ابتكر العديد من الأساليب التقنية والمؤثرات الخاصة والأساسية لا سيما الـ”الستوب موشن”، أو خدعة التوقّف، و”خدعة التصوير بأوقات مختلفة”، وغيرها من الخدع السينمائية التي لا تزال معتمدة حتى اليوم. وكان يطلق عليه بـ”المصوّر الساحر”، لأنه كان شغوفا بتغيير الجوانب البصرية للواقع واعتماد الكولاج في ابتكار مشاهده السينمائية، ومن أهم أعماله “رحلة إلى القمر”، وهو فيلم خيال علمي صامت أسود وأبيض فرنسي. صندوق العجائب وتذكّر الكثير من الأعمال المعروضة للفنان فرانسوا سيرغولوغو بأجواء فيلم جورج ميليس من عدة جوانب، لا سيما حيث يختلط الرسم بالحقيقة ويطير البشر ويعتلون أعراش النجوم، أو يسبحون في فضاء هو سماء وأرض وبحر، ولعل استدارة أعمال الفنان سيرغولوغو تذكّر بشكل حاد بمشهد من مشاهد فيلم “رحلة إلى القمر”، حيث يصل صاروخ إلى عين القمر الذي يملك وجها شبه بشري. إحدى عشرة لوحة مستديرة لأقمار متلازمة الأحجام ومُرقمة وكأنها أجزاء من شريط سينمائي تصل إليها الذاكرة المأزومة بأشكال مناطيد/صواريخ تصيب عينها، تؤلمها وتُدمعها، ولكن خارج مفهوم أي شكل من أشكال النهايات، ولكن ليس خارج، وكما ذكرنا آنفا، لحظة الإرساءات الوهمية التي باتت مع مرور أكثر من ثلاثين عاما، جغرافيا الوطن المتعايش مع أوهامه. وفرانسوا سورغولوغو مولود سنة 1955 ببيروت، وحائز على شهادة جامعية في الفنون الجميلة من إيطاليا، وهو يعيش الآن بين باريس وبيروت، وله معارض كثيرة خارج وداخل لبنان، من ضمنها معارض فردية تحمل عناوين إيحائية، مثل “ما خلف البحر” و”واجب دراسي للفرصة السنوية”، وكلا المعرضين يتناولان الذاكرة، كما يتناولان، وإن بدرجات مختلفة، معنى المنفى والذاكرة المُعلقة.

مشاركة :