كان المجتمع السعودي يتقبل الفنون ولا يشعر بالحرج من الفنانين، بل كان يحتضنهم ويحتفي بهم ويعتبرهم جزءاً أصيلاً من نسيجه لا يختلفون عن بقية المواطنين سوى أنهم يتمتعون بموهبة فنية يسعون من خلالها لتخليد شيء من إرثهم وإبداعهم الفني الذي كانت تتناقله الحاضرة والبادية في الجزيرة العربية. تصدر المشهد الفني حينها مجموعة من الفنانين الذين يمثلون مختلف مناطق المملكة، ولم يكن أحدهم يعتبر مجرماً أو فاشلاً وعاقاً لمجتمعه، وقد نتج عن هذه العلاقة المميزة بين المجتمع والفنان أن انتشرت حفلات المنوعات الترفيهية في كل مكان وأصبح باستطاعة الجميع أن يشاهد الفنانين عن قرب على منصة المسرح؛ سواء المغنين أو الممثلين، حتى بات الفن السعودي ينافس بثراء أعماله على مستوى الوطن العربي. وهذا بفضل احتواء المجتمع للفن والذي كان محفزاً للحراك الفني وساهم بنموه وتصديره خارج الحدود. من ذاكرة الفنان الرائد عبدالله السلوم نذكر قصة الاجتماعات الفنية التي كانت تتم في منزله أو منزل سليمان بن حاذور، وأيضاً نذكر قصة سراج عمر ومحمد عبده عندما استضافتهما عوائل من الجنوب بعد أن قدما نفسيهما بأنهما فنانان متجهان إلى جيزان، حتى مسألة زواج الفنان -كما يقول عبدالله السلوم- لم تكن معضلة كما هي الآن. كان المجتمع يحترمهم ويتعامل معهم أنهم مبدعون يستحقون التقدير. وقد بلغ من أريحية المجتمع تجاه الفنون أن يتجاور الجامع الكبير بالرياض مع سوق الاسطوانات القديم. احترام المجتمع للفن وللفنانين لم يأت اعتباطاً، بل جاء نتيجة لاحترام الفنان نفسه لقيم المجتمع وعاداته. كان الفنان يرى نفسه ابناً للمجتمع ولا يسعى لاستفزاز أفراده وتحديهم بأعمال سيئة تقفز على القيم والأخلاق. لكن مع مضي السنين تغير ذلك وأصبح الفن من ضمن المحرمات والفنان أصبح في نظر الناس إنساناً فاشلاً. ورغم أن هذا التغير تأثر بدوامة التشدد التي أصابت المجتمع قبل نحو ثلاثين سنة، إلا أنه أيضاً يجب أن لا نغفل دور الفنان في هذا التغير، ومسؤوليته في انقلاب موقف المجتمع من الفنون. للأسف أن ثقافة بعض الفنانين الخارجين عن المألوف كانت سبباً في توجس المجتمع منهم، خاصة في مجال التمثيل والدراما، فعندما يقدم ممثل ما أو منتج ما مسلسلاً يضج بمشاهد مبتذلة ومبالغ فيها إلى درجة الافتراء، فعندها لا نستغرب إذا ما رفض المجتمع هذا العمل والفن بشكل عام. ولنا في مسلسل "أيام السراب" ومسلسل "هوامير الصحراء" خير مثال لدرجة الابتذال التي وصلت لها بعض الأعمال السعودية والتي لم تعط المجتمع فرصة لتقبل الفن أو احترامه. مثل هذه الأعمال قدمت صورة مختلقة وسلبية وسيئة جداً للمجتمع، وأقل ردة فعل يقوم بها الناس هي أن يرفضوا ما تقدمه هذه الأعمال وأن يرفضوا من صنعها رفضاً قاطعاً. والمشكلة أن الرفض سيشمل بقية الفنانين الذين لا علاقة لهم بمثل هذه الأعمال السيئة. استمد المجتمع هجومه على الفنون بشكل عام من الأعمال الهزيلة التي لم تحترم القيم والعادات. وبسبب فنان غير ناضج يبحث عن الإثارة بأي طريقة، تأثرت صورة الفن في نظر الناس وأصبح من المستحيل العودة إلى تلك الصورة النقية التي كانت للفن السعودي في البدايات؛ في زمن الرواد الذين احترموا المجتمع فاحترمهم، مثل طلال مداح وطارق عبدالحكيم وفهد بن سعيد وغيرهم في مجال الغناء، أو "طاش ما طاش" في مجال الدراما. في بدايات الفن السعودي كان الناس يقبلون الفنان في مجتمعهم ويتباهون به حتى وصل الأمر إلى المصاهرة، والشواهد على ذلك كثيرة من الرعيل الأول الذي بنى الفن الغنائي والدرامي وحتى التشكيلي. لكن في الفترة الأخيرة ظهر علينا البعض ممن تقمصوا شخصية الفنان ليمرروا أجنداتهم الخاصة التي شوهت سمو الفن الجميل، ما جعل المجتمع السعودي؛ خاصة جيل من تربى على فكرة أن الفن حرام، متمسكاً برأيه وثقافته التي بنيت على أيدلوجية معينة ترفض جماليات الحياة. إذا كان المجتمع في جوهره محب للفنون ومحتف بها، كما رأينا قديماً، في الحفلات التي اجتمع فيها الناس مع المغنين والممثلين، فإنه لم ينقلب ويتغير إلا بسبب الفنان نفسه، الذي استفز الناس بأعمال جريئة ودون أن يكون لديه وعي بضرورة تقديم أعمال تلائم فكر المجتمع وتحترم وعيه وقيمه وأخلاقه. لو أن هذا الفنان احترم مجتمعه وقدم صورة راقية للفن لما وجدنا صعوبة في إقامة حفلات غنائية في الرياض وجدة وأبها ولا صالات سينما في بقية مناطق المملكة. إن عودة الفن لواقع الحياة وانتشاره وقبول الناس له مرهون بالفنان قبل أي شخص آخر. احترم الناس وقدم لهم ما يصون وعيهم وقيمهم وحينها سيدافعون عنك ويحتفون بك.. تماماً كما كانوا يفعلون سابقاً مع الرواد المؤسسين.
مشاركة :