عليك أن تدل أحزانك على النبع بدل أن تكسر «المصب»

  • 11/8/2014
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

أتيت لأفتح هذا الباب العاري إلا من الحب.. لأفتح فناجين الدهشة أمام عرافة الكلام التي كلما فاضت قهوتها توقاً كلما أخذتني من قميصي إليها لأشفى من الصمت وأشتهي الكلام.. لم أحسن قط سد النوافذ نحو العالم الآخر، ولم أستطع أن انفلت من التورط في تلك الحالة الأكثر حميمية من أحلام تأتي بنا إلى الأرض بعد أن نغتسل في السماء من ذنوبنا، ثم نعود خالين من آثام الرغبة في الحياة الطرية.. هذا الجنون أعطاني شهوة عارمة للكتابة.. وقال لي « أدخلي من أصعب الأبواب انغلاقا لأشفى من الواقع وآتي بهم جميعا.. لأعيش معهم، ألتقيهم، عبر بوح كان بيننا ولكنه خارج سطوة المكان.. ولأنني تكلمت معهم كثيرا.. جئت أصغر من عمري بكثير.. وأكبر من عمري بكثير.. جئت لأنسج الحكاية بثوب الكمال المفرط الذي يقول عني كل شيء ولكنه يبقى خارج حدود المكان..أتيت أرتب لقاء بين شخصيتين لم يلتقيا ولم يعرفا بأنهما هنا سيتحدثان مع بعضهما لبعض.. ما تقرأه.. حدث ولم يحدث.. كان هناك البوح ولكن الخارطة المكانية لم تحضر سوى في القلب.. في أقصى زاوية للروح.. في تلك الجزيرة الريفية الفرنسية والتي أسمها « بورا بورا « (pora pora ) والتي تعني الولادة الأولى.. وعند شاطئ البحر الهادئ الذي كان يلف المكان، شممت رائحة أشجار جوز الهند ذات السيقان الطويلة وكأنها تحرض بي حكاية « انعتاق « جديدة، شممت رائحة نباتات فجر المطر وخلف تلك الرائحة حبر طفولي يمتد على مرمى البصر، من بداية أول شاطئ في تلك الجزيرة حتى أقصى حبة تراب، شعرت بنفسي في ذلك النهار طفلة تهتز لأشياء هي وحدها تشعر بها وتلامس روحها.. اقتربت من الشاطئ.. خلعت حذائي، وضعت قدمي على أول خطوة نحو مياه قريبة من القلب.. أحسستها تتسرب إلى الداخل لينهال هديرها في الروح. هناك.. ألمح رجلا قريبا من الصخور يجلس، يحدق في فضاء البحر، يرمي بعينيه نحو الأفق.. كلما غاص أكثر نحو المحيط.. مد أطراف أصابعه إلى الماء ثم قبض يديه كمن أمسك بشئ.. فإذا ما رفع يده إليه فتح أصابعه فوجد الماء تسرب منها وانفلت.. يفعل ذلك مرارا.. ثم يقبض قبضة من التراب ويرمي بها إلى البحر ذلك كان الشاعر والناقد « محمد الحرز « الذي كان أخف من الريش وأعمق من الألم. مشيت نحوه.. وقفت بجوار الصخرة التي كان يجلس عليها.. أخذت شيئا من الحجارة ورميتها نحو البحر.. ألتفت إلي.. قلت له.. ** وأنا أيضا أحسن رمي الآلام.. يبتسم وينهض.. ليلقي علي التحية.. وليدعوني إلى مرافقته نحو طريق مفتوح مجاور لشاطئ البوح.. محمد الحرز لم يقل الكثير في الخطوات الأولى، فكانت تتلبسه حالة صمت كبيرة، وكأنه كان يسبح في ملكوت تلك الهالة التي كان يضفيها البحر على الروح.. فيما أقدامنا الحافية تنتشل الرمال المبللة كلما مشينا إلى هناك.. قلبان يتحاوران أمام ضفاف الألم وتحت أشجار «الجوز»! عبير: كلما أتيت إلى البحر أشعر بأن هناك ذاتاً جديدة تتوحد معي لتدفعني نحو التأمل، هنا يصبح كل شيء مغرياً ومحرضاً للبوح.. أظن بأننا أمام البحر علينا أن نكون كما نحن، أن ندع الروح تطفو، وأن يغالبنا الحزن لنقول كل شيء له.. أمام هذا الكائن العملاق علينا أن نصغر..ولندع الروح تلتصق بالموج فتحدث دهشة التحول من كائن بالغ يتقن فن الكلام إلى صغير يتقن فن الحفر والنحت واللعب والطيش.. كثيرا ما صغرت أمام البحر.. وقلت له الكثير.. محمد: أنت أمام البحر لا تقول شيئاً, لا تصغر أو تكبر , قدماك اللتان تسبقاك إلى هناك هي أيضا لا تقول شيئا, يداك الصامتتان المندهشتان من فرط تدفق أمواج البحر في عروقها مشغولة بتنظيف مجرى دمك قبل عبور مياه البحر فوقه. حتى عيناك اللتان تعودتا على أن ينام البحر في أجفانهما, ونظراتها تلاحق نظراته , وأحلامها تلاعب أحلامه, لا تستطيع أن تقول شيئا, وكأنك سيارة تعطل محركها فجأة دون أن تعرف موقع العطب أو سببه. دائما ما كنت أصرخ على أعضائي فيما مرأى البحر لا يبعد عني سوى أمتار قليلة. أصرخ في براريها ووديانها وصحرائها. لكن الصدى وحده الذي يملؤه اليباس هو الذي يصفع وجهي , وحده الذي يفكك هيكل السيارة ويحولها إلى مجرد حطام. **صوت مليء بالحياة من الخلف يقطع علينا ذلك الحديث ليقول: يبدو بأننا على موعد غير مسبق مع البحر.. ** ننظر إلى الخلف لنجد الروائي الجميل " عادل الحوشان " مبديا التحية.. ويحمل بيده صحيفة ورقية فرنسية.. نتبادل السلام ثم ندعوه إلى مرافقتنا.. بعد أن أقول لعادل: عبير: كنت أتحدث مع " محمد " عن البحر وعن مدى قدرته الهائلة على تغييرنا.. ** يستطرد محمد في ذلك البوح ليقول: أنا أحسد الذين عندهم القدرة كي يقولوا الكثير للبحر, ليحدثوه دون أن يفكوا شفرة لغته أو حتى يترجموا ما يقوله لهم إلى لغتهم الأصلية. أنا لم أعش هذه الحالة أبدا في حياتي , عشت البحر في طفولتي , سقطت أيام عديدة منها, ولا أعرف إن كانت وصلت قاعه وعاشت هناك أم تلقفتها أسنان فك مفترس؟ لم أتدرب كثيرا على استرجاع هذه الأيام من ذلك الفك. ولم أتدرب في حياتي على انحيازي للبحر بوصفه كائنا لغويا يمكنك أن تستضيفه في بيتك , تضع له كرسيا مريحا وتعطيه كأسا من البوح وتقول له: حدثني عنك أيها الشيخ العجوز. ** يقف عادل.. يلتفت بجسده إلى البحر..وكأنه يجرب أن يفهمه أكثر ثم يقول: لم أعرف البحر إلا متأخراً، أذكر صديقاً من "القرية" أخذناه إلى هناك مرّة، وحين رآه قال "كبير"!ماء غامض وواسع ولا يمكن أن يكون قدوة إلى الأبد، أشعر معه بالوحشة أكثر والفقد، أشعر به بلعوماً هائلاً لا يمكن فهمه ولا الخوض معه في لعبة أو تمرين. ** يمد أصبعه السبابة نحو صدر البحر.. يستطرد: لدي الرغبة أن أضع أصبعي في قلبه ليموت للأبد، لا أن يضع أصبعه على قلبي،أحبه أحياناً محبّة الخائف، حين يهدأ وأرى التراب تحته وتدخل رغوته إلى كلمة لم تُقل بعد. الحديث بيننا طعنات صغيرة متبادلة بين عدوّين. ** أقترب من الشاطئ.. أجلس على التراب أمام الموج.. أضم ركبتي إلى صدري.. أسند مقدمة رأسي عليهما ثم أقول كمن يجرب أن يرتاح: عبير: إنه الحزن.. الحزن يدفعنا نحو كل ذلك.. وكل من يملك ضميراً حياً عليه أن يحزن.. الحزن يجعل منا بشراً تشبه الملائكة.. في الحزن نشتهي الحياة أكثر، ونشتهي أن نقف عند حافة المنطقة التي تقول عنا كل شيء..ربما يطهر الحزن البعض، وهناك من يمر الحزن على حافة قلبه ولكن لا يغيره.. كم هو كبير طعم الحزن بقلبي! كلما تذكرت ذلك الطقس العاصف من التجارب أشعر بأنني تغيرت كثيرا معه عن وقت كنت فيه امرأة لا تشبهني كثيرا.. ولكنها تلتقي معي في منطقة ما.. ** يتقدم محمد وعادل إلي.. يجلسان أمام الشاطئ.. ** يتناول " محمد " عودا من الخشب كان يتوسد التراب.. يقوم بكتابة كلمات عشوائية " البحر، الحزن، الفجر.. ثم يقول: لا أعرف موقع الحزن من الجسد , وأين موقعه الأصلي منه؟ هذا الولد الشقي الذي نسميه الحزن لا يستقر في مكان إلا وينتقل منه إلى مكان آخر, لا يمكن أن تمسكه من كتفيه وتقول له: ثبت قدميك على الأرض ولا تتحرك أيها الولد, ولا يمكنك أن تشم رائحته إذا ما أردت أن تحدد موقعه بهذه الحاسة, رائحته هو ما يتسلل منه إلى حقل أحاسيسك وأنت في غفلة كي يفسد ثماره ويحجب الضوء عنه , ولا يمكنك أيضا أن تراه, ولو حدث يوم ما, واختلت طبيعة الأشياء, وأصبحنا نراه أمامنا, لا أصبح بذلك الولد شبيه الحزن, ولا كانت الحياة هي الحياة. وعليك أيضا أن تحذر ما يتسلل إلى حقل أحاسيسك ليس دافعه العداء المطلق, بل لا يعرف عادات وتقاليد أحاسيسك في زراعة حقلك, عليك أن تعلمه كيف يغرس البذرة فيه بدل أن يكسر غصون أشجارك, عليك أن تدله على منابع المياه فيه بدل أن يكسر المصب ويغير اتجاهه. أخيرا هو قلبك, ولأنك لا تعرف طعم هذا المتسلل إليك من عمق الليل, ولا تعرف شكلا له ولا لونا , فينبغي عليك الحذر. لكن حذر الذي يريد أن يحتل هذه الأرض بجيشه دون أن يؤذي أهلها. هذا هو قلبي وهذي هي طقوسي. عادل: أجد في الحزن أحياناً ملاذاً، أجلسه أحيانا كثيرة على الكرسي وأبدأ معه في عدّ الخسائر وما تبقى منها، أعلّمه أنني سأفتقد قريباً أشياء أحبها تحت معنى الحياة وصيرورتها، حين يخرج، يخرج مشبعاً بالوجوه والوحشة ونادماً. هذا ما أحاول أن أفعله معه حين يأتي صدفة أو لسبب ما، لازلت أتعلم في كل مرة كيف استطعت أن أعيده إلى عزلته في المرة السابقة، بعيداً عن وجهي، مالم يتعلّم هو أن يجلس لا ليأخذ الحكمة من فوق الطاولة إنما ليتعلّم الصمت ويكون شجاعاً دائماً. عبير: أيمكن - ياعادل - أن يتعلم الحزن الشجاعة وأن نملكها نحن أيضا.. ** أنظر إلى محمد.. ثم أكمل.. في الحزن أجدني هشة جدا حتى أمام نفسي.. إنها هشاشة قلب وليست إرادة، أجدني هناك خفيفة كريشة تتقاذفها رياح اللحظة الصعبة.. مايؤلمني ليس اللحظة بل الموقف الذي يسبق اللحظة.. الاكتشاف، الحقيقة التي تجعلنا أمام مرآة لا تخطئ أبدا في إظهار قبح الصورة.. نعم يخلق الحزن بداخلي كل ذلك الوجع المربك.. أرتبك كثيرا.. ولكني أعلم بأنه الحزن الشفاف الذي لا يمكن أن يختلط بالسواد. محمد: الحزن لا يربك , لا يزلزل , لا يخلق , لا يمزق خرائطنا الداخلية , ولا يحطم فوانيس دروبها. الداخل لا شأن للحزن به, الألم هو من يصنع كل ذلك , الحزن مهمته أن يوصل الألم ويدله على الباب, من يشجعه على الطرق والاستئذان إذا لم يقتنع الألم بالدخول. لكن إذا رآه متشجعا ومتحمسا, أشار عليه بالقفز من الأسوار العالية للمنزل , والعبث بمحتوياته دون أن يستأذن من أحد. الحزن هو نتاج الطبيعة, نتاج الحياة البشرية, نتاج الكون بأسره, هو يعرفنا ونحن نعرفه تماما لأنه جزء منا: يأكل مثلما نأكل, ويشرب مثلما نشرب, ويمشي مثلما نمشي, يكبر مثلما نكبر, ويشيخ مثلما نشيخ. لكن الفرق بيننا وبينه هو في الألم. ألمنا الذي يصنعه بيديه يموت مع آخر نفس يخرج من رئتينا, بينما ألمه يتجدد مع تجدد الحياة , يتجدد ما دام الكائن يتنفس شيئا من الحياة. أليس ألمه من فرط غناه, وعظم ثروته, ما لو وزع, ليس على البشرية فقط , بل على جميع الكائنات في العالم , لفاض عن الحاجة؟ أليست هذه الحقيقة؟ أليس تاريخ الحزن في الكون هو تاريخ الألم نفسه؟ **يتناول عادل حجارة صغيرة ويرمي بها عاليا إلى قلب البحر ثم يقول: ليس بالضرورة.. أحزاننا الصغيرة مرتبطة أكثر بالألفة وبأظفارها الصغيرة، بالخدوش التي تترك علاماتها، لم يعد يفرق كثيراً معي وربما معنا أن يطهر الحزن هذا البعض، لم نعد نبلاء ونحن نعيش في فم الوحش، ربما صرنا شجعانا أكثر، وحدّدنا مصائرنا بدقّة وعلاقاتنا ومعاركنا أيضاً. ** ألوح بيدي بالرفض كمن استدرك فكرة مفاجئة..ثم أقول: عبير: لا.. لا.. لا الألم.. بل مكانه بعد أن يزول.. الألم ممن نحب يمضي ويبقى الحزن مكانه يحتل تلك البقعة ليزيد من حرائقنا، مآتمنا.. فإما أن نعيش مهدمين بذلك الحزن، أو معزولين بقصص كم قتلت فينا الحنين..كل ألم هو قاتل، وكل حزن هو مفجع.. وأشد أنواع الحزن ذلك الذي يكون مصحوبا بفجيعة العشق.. طعم الحزن ممن نحب.. كيف يبدأ.. ثم كيف نشفى منه؟ تلك هي المسألة.. محمد: الألم لا يزول حتى وإن اختفى , إنها خديعة الحزن فينا. ما أن يتغلغل ويدهس عظامنا ويفركها ببعضها البعض, من أثر تجربة معينة, من عزيز فقدناه, من حب هرب من أيدينا, من نكبات الحياة وتقلباتها, حتى يعود أقوى مما كان في تجربة أخرى مماثله أو أقل منها أو أكثر. لا شفاء وإنما أرواحنا تتعالج بفعل العادة فقط. ** عادل وهو يقلب الصحيفة التي بين يديه: لا. ليس بهذا الشكل على ما أظن، ولا بهذه الطريقة وإلا سيصبح الموت تجربة لا تستحق إن تُعاش، سيصبح باهتاً وبارداً أكثر مما يجب، لن يترك لك الفرصة لوداع العالم مبتسماً ومبتهجاً بالانتصار الذي عليك أن تحققه وتدفعه في وجه الموت ليبتكر طرقاً أكثر شجاعة في المواجهة. ** يطوي الصحيفة.. يضعها إلى جانبه ثم يقول لمحمد: الاستسلام حيلة صغيرة، والهرب كذلك، كل هذه الحيَل التي نبتكرها لا معنى لها، غير أنها تقودنا للعجز والكسل والابتعاد عن خض الأفكار المحرضة في أدمغتنا.الكتابة والموسيقى والفنون وحتى الموت، هي جزء ثمين من هذه المواجهة. البراعة والعبقرية هي العيش، كيف يحدث ذلك، ليكن الحزن صغيراً أو كبيراً مسبباً أو غير ذلك، ليكن بندقيتنا التي نصطاد فيها الأنهار ونضع أقدامنا فيها، بجانب كل الكائنات التي نحبها. عبير: هل يمكن أن نتصالح - حقا - مع الحزن؟ هل يجب أن ننعتق من حصار الحياة علينا، ومن سرقة أحلامنا بأن نكون رفاق أوفياء لأحزاننا؟ ومن يتحمل عنا كل ذلك القدر من الخذلان والخيبات؟ ** أقف.. أنفض التراب عن ثيابي.. ثم أتابع: كم هو صعب أن تبرأ الجروح بتلك السرعة وبذلك القدر من السهولة.. ** محمد.. بعد أن يقف ويعيد ترتيب أكمام قميصه المفتوح.. كما قلت التصالح هو في عمقه فعل العادة , والإنسان يتورط في سلوكه, ونظرته للحياة دون أن يشعر أن الحزن هو في عمق هذا التورط, في عمق هذه النظرة, حد أنه يعقد صداقة وثيقة مع أحلامنا, ونحن بالنهاية راضون عن هذه الصداقة كل الرضا. ** عادل.. بعد أن يقف ويضرب كفاً بكف في محاولة لإزالة التراب الذي علق بيديه.. يقول: أظن بأنني فككت أسر الحزن وخرجت بعد أن أغلقت الباب خلفي.. أفعل ذلك بالحياة، وأجمل ما أفعله بالموسيقى والفنون كلها، تقليب جمرها وشيّ الجثث التي يتركها لها ليختبرني. وتقديمها له بصفته أكثر القبائل جوعا. عبير: هل تظن - ياعادل - بأن الأمور بتلك السهولة حقا؟! ليس هناك أسوأ من وجع نعيشه بكل مآتمه من أجل إنسان ترك العتبة ومضى دون أن يقول لماذا؟ ولا أعرف كيف للمرء أن لا يحسن رؤية الحزن أو تذوقه وكأن هناك ضمير غائب.. فحتى الحزن له ضمير.. عادل: لا أحد سينجو في النهاية هذه النجاة الصافية، لا بدّ من المرارة بشكلٍ ما، قد تأتِي على شكل مأساة إنسانية مثلما في الحروب والجوع، وقد تأتِي على هيئة تجربة شخصية ذاتية وخاصة، لها أشكالها ووجوهها المتعددة.لكنني أثق بضمير الحزن، وهذه مهمّة الفهم والعَدو والرئتين والهواء، علينا أن نراه وأن نرسم طرقه وأبوابه،أن نعلّمه من نحن وماذا نفعل، وأين يمكن أن يتوقف وكيف..مهمة معقدة وفي غاية الصعوبة، لكنها ممكنة وخياراتنا متعددة. **ينظر محمد إلى ساعة يده.. كمن تذكر موعدا هاما ويهم بالرحيل.. أقول له مشاكسة: عبير: هل ستغادر البحر بعد أن رميت بقلبه ما رميت..!! محمد: لم يغادرني حتى أغادره , ولم أغادره حتى يغادرني , دائما أحمله معي أينما رحلت , إذا لم يتسع له قلبي , فإن لغتي هي تحتضنه وتحنو عليه بالقدر الذي يبادلها الشعور ذاته. لم أدر ظهري له في اللغة, ربما حدث ذلك في حياتي اليومية , لأني أدرك في صميم ذاتي أن حضوره في لغتي بمثابة الروح من الجسد , لذلك لم أعرف فكرة المغادرة , ولم أحاول اقتطاع جزء مني وأرميه في أحشائه. ** أضحك.. ثم أقول " يا سلام على تلك الثقة.. وتلك الصحبة.. ** يتابع بعد أن تلمع عيناه حبا للبحر: لأن ما سأرميه سأسمع بعد خطوتين صرخاته في أعمق أعماقي تقول لي: عبث ما تصنع يا صرختي الأم. ** أقاطعه بمرح.. وأقول بإصرار.. عبير: ولكن ألن تقول للحزن " هذا يكفي ".. **محمد.. يقول بعد أن أدار ظهره عن الساحل.. لم أقل له سوى هل من مزيد, لكن دع ألمك يترفق على جسدي , ولا يحتلني بطريقة تعسفية كي أحيا معه أطول فترة ممكنة, أرجوك دعه يفعل ذلك برب من خلقك. ** يلوح لنا بالوداع ثم يغيب عن الأنظار.. ** يستوقفني مع " عادل " مشهد لأطفال يبنون قصورا على الشاطئ.. فأقول: **عبير: الأطفال وحدهم من يبنون قصورا وقلاعا من أحلام على ساحل البحر ثم يتركونها وحيدة ويرحلون حتى يأتي من يزورها يوما..فعلت ذلك حينما كنت صغيرة.. أذكر بأنني ذات يوم بنيت قصرا من رمال.. وحينما ابتعدت عنه قليلا.. جاء من وضع قدميه عليه ودهسه حتى دمره.. أذكر بأنني تألمت كثيرا وبكيت.. كنت أشعر بأني وضعت أحلامي في ذلك القصر.. منذ ذلك اليوم أصبحت أفهم بأن الأحلام لا تحتاج إلى القصور.. بل تحتاج إلى الفضاء لتسكن فيه..وذلك ماأحب أن أعد البحر به قبل أن أغادره.. ** ينظر إلي " عادل " بتفهم شديد.. ثم يقول: لم أعد البحر بشيء للأسف ولم أترك قصراً على ساحله، أجلس على حافة الصحراء وأسمع عواء الريح وأضع في فمها ناياً. أصغر الأحلام يمكن أن يكون كافياً، أن تحب ما تحبه مهما كان، وأن تطمئن حتى لو للشكّ. ** يصمت ثم يفرك أصابع يده على جبينه كمن تبدو عليه الحيرة.. ثم يتابع: أحاول أن أفكر الآن ماذا تركت وبماذا أفكر؟ لكنني عاجز فعلاً عن تحديد شيء، غير أنني وجدت نفسي في مواجهة غير عادلة لكل هذا "التسونامي" البشري من الأحقاد والأسلحة والطمع والحب والجشع والاستغلال مقابل عناصر الطبيعة المسالمة في الغالب. لم يتحقّق منّا غير قدرنا على الإبادة وكأننا نفعل ذلك إيماناً بواجبات لم تكن لنا مطلقاً. ** أتأمل ذلك البوح.. أشم رائحة الحزن تأتي من بعيد.. أسأله.. عبير: هل يعني ذلك بأن هناك حزناً لم تشف منه بعد؟ عادل: الموسيقى حين يتركها إنسان عاش في ظل نكبات كبيرة لم يرتكب أياً منها، إنما فعلها الساسة والقتلة ومرتزقة الدين والرايات السوداء.مثل هذا يُعد لي يوماً كاملاً من الشاي وملمس الأرض والفواكه وقطط الشوارع والأرصفة، لأعيد "لي" حيويتي التي أحتاجها في التفكير بشكل مكرر دون إجابات. ** ينتهي الحديث بيننا.. ليودعني "عادل الحوشان " ويرحل.. انظر إلى تلك الحروف المهملة التي كتبت على رمل الشاطئ.. أتأمل تلك الوحدة الصامتة في المكان ثم أغادر بعد أن أخبر البحر بأن هناك دائما أحزان لم تقل في جزء من مكان ما.. ربما يكون في ابعد منطقة من شمال القلب.

مشاركة :