الأصل في المجتمعات والثقافات هو تلقائية الرفض القوي للتطور فالمجتمعات لا تستجيب للريادة الخارقة إلا بعد رفض قد يطول أو لاتستجيب أبدًا بل إن تَتَبُّع حياة الرواد يؤكد أن الرفض غالبًا يكون عنيفًا، والمقاومة للفكر الريادي تأتي شرسة ومتجددة ومستمرة إلى أن تتبدل الأوضاع بما يسمح بتسلل نور الريادة إلى بعض العقول ثم يمتد التأثير. إن تاريخ الحضارة يشهد بوضوح بأن كل تطور خارق هو تجاوزٌ لسائد وخروجٌ عن مألوف وكسرٌ لإطار وانفصالٌ عن واقع وخَلْقٌ لقيمة وصياغةٌ لاتجاه جديد في التفكير والعمل والاهتمام وهذا لايحققه المتعلمون المنتظمون المرددون وإنما يحققه الرواد المبدعون الذين ينفرون من واقع رتيب راسخ ويندفعون من أجل صياغة واقع جديد مغاير ينهض به مجتمع وتتغيَّر به أمة وتتطور به الحضارة الإنسانية عامة. إن الرواد على المستوى الإنساني في امتداد الزمان والمكان في مجالات الفكر والعلم والاختراع والفن والقيادة والاختراق هم عددٌ قليلٌ جدا قياسًا بعدد البشر خلال التاريخ البشري كله على امتداد القرون إنهم مثل عنصر الذهب في كتلة الأرض أو مثل الأصداف في البحار والمحيطات، أو مثل ملكة النحل تكون فريدة ومختلفة كليا عن أسراب العاملات لذلك أمكن حصر الرواد في كتب تاريخ الحضارة وتاريخ العلم وتاريخ الفن وتاريخ الاختراع، وتاريخ الكشوف الجغرافية وتاريخ الأدب وتاريخ الشعر وتاريخ الفن الروائي، وتاريخ الرسم وتاريخ الموسيقى وتاريخ المسرح وتاريخ السينما وتاريخ السياسة. مئاتُ الملايين من المتعلمين في كل أقطار الأرض يمرون في هذه الحياة مرور العابرين لايتجاوز دورهم في أحسن الأحوال محاولة الالتزام بما حققه الرواد العصاميون وتنفيذ قواعد ومعايير وضَعَها المتميزون المندفعون فالمتعلمون مردِّدون ومنفِّذون وحتى هذه المهمة التنفيذية لايكونون مؤهَّلين لأدائها إلا بعد مران دقيق وممارسة طويلة وحتى مع المران والممارسة لن يكتسبوا المهارة الضرورية فضلاً عن الأداء الفائق إلا باهتمام تلقائي قوي مستغرق حيث يوجد اختلاف نوعي بين المعرفة النظرية، والأداء العملي فالإتقان وليد الرغبة الجياشة في المجال والاستمتاع بحسن الأداء فقابليات الإنسان تتحكم بها عواطف الحب أو الكُره والانجذاب أو النفور واللذة أو الألم، وكلُّ ذلك محكومٌ بتدفقات هرمونية واستجابات تلقائية ليست خاضعة حتى للفرد ذاته. لقد جرى خلطٌ شديد بين التعلُّم اندفاعًا بفاعليته العظيمة الذي هو من نصيب القلة الرائدة والتعلُّم اضطرارًا بكلاله وعقمه الذي تعيشه الكثرة الغامرة فالرائد هو نتاجُ نفسه سواء اضطر للانتظام في التعليم بمختلف مراحله مسايرةً للمعايير السائدة أم دفَعَه نفوره إل الانفصال المبكر عن السائد والاستقلال بالنفس كما فَعَلَ مبدعون عالميون في مختلف المجالات مثل ستيف جوبز أو ألفريد نوبل أو بيكاسو أو تولستوي أو بيل جيتس أو آرثر كستلر أو كروتشة أو برديائيف أو جيمس وات أو هنري ميلر أو غيرهم من المبدعين الذين تخلَّوا عن التعليم النظامي مبكرين فحفظوا طاقتهم ووقتهم واهتمامهم من التبدُّد وحموا قابلياتهم من الانسداد الذي تسببه مكابدة مقررات لايسيغونها ولا تتفق مع اهتماماتهم وطموحاتهم وما يجيش في نفوسهم من تساؤلات. اعتدنا نحن العرب الاعتراف فقط بتفرُّد الشعراء لأننا ورثنا هذا الاعتراف عن أسلافنا فقد كان الشعر هو الإبداع الوحيد الذي ورثناه، أما العلم في العرف السائد فهو حفظ ما قيل واستيعاب ما هو مستقر وليس اكتشافًا أو إبداعاً لذلك فإننا مازلنا نستبعد العصامية والتفرُّد في مجالات الفكر والعلم والاختراع والإدارة والفن والأداء المتفوق من أي نوع حتى في اللعب لأنها مجالات طارئة على ثقافتنا فقد وفدتْ إلينا مع التغيرات التي طرأت على الحياة الإنسانية وجاءت مع تعميم التعليم الذي خلطناه بأوهام معطِّله أدَّتْ إلى التوهم بقدرة من ليسوا مهيئين لامتلاك القدرة خارج مستوى الرتابة. حين نكون بشأن التعليم وتقييم نتائجه فإن علينا أن نتذكر بأن مؤسسي العلوم كانوا من العصاميين الذين دفعهم اهتمامهم التلقائي القوي المستغرق إلى أن يكتشفوا ما كان مجهولاً فتتغيَّر باكتشافاتهم التصورات، وتتبدل المسارات إنهم روَّادٌ مغايرون للسائد وليسوا تلاميذ مدجَّنين فكلٌّ منهم يرتاد مجهولاً في مجال اهتمامه فيضع الإنسانية في مسار جديد نحو التقدم في مجال من مجالات العلم أو الاختراع أو الاكتشاف أو الفن أو نمط جديد من أنماط الأداء. إن التاريخ بمختلف قطاعاته يقدم شواهد لاحصر لها وكذلك يقدم الواقع بمختلف مجالاته الدليل بعد الدليل على أن الاهتمام التلقائي القوي المستغرق هو مفتاح الطاقات الإنسانية. إننا حين نقرأ مثلا تاريخ علم الأحياء نجد أن بائع الأقمشة انطوان ليفنهوك كان واحداً من أهم هؤلاء الرواد المؤسسين والشيء المهم في حياة هذا الرائد المدهش أنه لم يتلق أي تعليم نظامي وإنما علَّم نفسه بالشغف والاندفاع التلقائي والإصرار والتركيز فارتاد مجالاً من مجالات العلم غير مطروق من قبل واكتشف باهتمامه التلقائي القوي المستغرق دنيا الأحياء الدقيقة الخفيَّة المدهشة كما أنه أيضا كان مخترعًا فقد اخترع المجاهر التي مكَّنته من هذا الاكتشاف الباهر وبذلك أسَّس علم الأحياء الدقيقة (الجراثيم) فأدهش أوروبا بأجمعها حتى زاره الملوك والعلماء وهزَّ الكثير من التصورات التي كانت سائدة وفتح المجال لتأسيس علوم أخرى ذات علاقة وطيدة بهذه الكائنات التي لا تراها العيون ولا تحسها الأيدي ومع ذلك تفعل الأفاعيل لذلك عدَّه الدكتور مايكل هارت يأتي في المرتبة (39) بين المئة الأوائل الأكثر تأثيرًا في التاريخ البشري. أما العصامي الثاني المؤسِّس لعلم الأحياء فهو تشالز داروين بغض النظر عن الموقف منه ومن نظريته إلا أن الذي لاشك فيه هو أن علم الأحياء بفروعه المختلفة يتأسس على هذه النظرية وكذلك الطب فحتى مع الايمان بعدم صحة استنتاجاته فإن نظريته قد صارت نظرية جامعة وإطارًا عامًّا للبحث في علوم الحياة والعلوم الطبية وقد تحقق له ذلك مع أنه كان نافرًا من التعليم النظامي وبسبب نفوره فقد تنقَّل بين عدد من المجالات ولم يستقر على واحد منها وأثناء الدراسة وقبل تخرجه في أي تخصص أتيح له أن يتم اختياره مرافقًا وجليسًا ومؤنِّسًا لقائد الباخرة (بيجل) في رحلتها الاستكشافية التي استغرقت خمس سنوات ولكنه كان شغوفًا بالبحث في المجال الذي يهواه وكان يهتم بملاحظة أوجُه التشابه والاختلاف بين الكائنات فبدلاً من أن يكون مجرد مرافق للكابتن تحوَّل إلى باحث أصيل ودقيق بينما بقي دور الباحث الرسمي في الرحلة روبرت مكورمك دورًا هامشيًّا حيث لم يحقق أي نجاح في مهمته بينما أن داروين الذي جيء به كجليس لقائد الباخرة فقط هو الذي حقق هذا الانجاز الذي امتد تأثيره إلى كل مجالات الفكر والعلم. وهنا يظهر الفرق النوعي بين الباحث المدفوع باهتمام تلقائي مقارنةً بالباحث الرسمي الذي يؤدي عملاً مطلوبًا منه لكن لايتأجَّج حماسًا له ولا اندفاعًا تلقائيًّا إليه فالمهمة البحثية كانت موكولة للطبيب روبرت مكورمك ولكنه فشل في مهمته بينما أن داروين الذي كان مهتمًّا اهتمامًا تلقائيًّا حقق نتائج صارت ذات تأثير شامل وحاسم وممتد في الزمان والمكان رغم أنه لم يكن مطلوبًا منه رسميًّا أن يفعل ذلك وهنا يتضح الفرق النوعي بين فاعلية البحث اندفاعًا، وعقم البحث اضطرارًا وقد جرى التحقق من ذلك أخيرًا طبقا لما يؤكده استاذ علم الأحياء في جامعة هارفارد ستيفن جوود في كتابه (منذ زمن داروين). وهكذا يكون الرجل الثاني في تأسيس علم الأحياء قد اعتمد أيضا على نفسه فصار متبوعًا بدلاً من أن يكون مجرد تابع يردد ما قاله الآخرون ولقد بلغ اتساع وعمق تأثيره درجةً جعلتْ الدكتور مايكل هارت يجعله في المرتبة (17) بين الأكثر تأثيرًا في التاريخ الإنساني كله. أما المؤسس الثالث لعلم الأحياء غريغوري مندل فهو أيضا رجلٌ عصامي اعتمد على نفسه ودفَعه اهتمامه التلقائي القوي المستغرق إلى أن يكتشف الأساس الوراثي للأحياء وكما قال عالم الأحياء الفرنسي الحائز على نوبل فرانسوا جاكوب في كتابه (منطق العالم الحي) كان مندل سابقًا لعصره سبقًا مذهلاً فلم يلتفت العلماء لاكتشافه إلا بعد خمسة وثلاثين عامًا ولكن تاريخ العلم حفظ له هذه الريادة الباهرة في تأسيس علم الوراثة فَقَد عدَّه الدكتور مايكل هارت في المرتبة (59) بين العظماء الأكثر تأثيرًا في التاريخ الإنساني متقدمًا بذلك على ديكارت ويوليوس قيصر ووليم الفاتح وتوماس جيفرسون وغيرهم من عظماء الحضارة. من غير دافع تلقائي يضطر أكثر الدارسين إلى حفظ المسائل في مادة الكيمياء مثلاً ولكنهم في الغالب لايتساءلون كيف تكوَّن هذا العلم ابتداءً وهنا يبرز اسم جون دالتون الذي لم يتجاوز في التعليم النظامي المرحلة الابتدائية لكن اهتمامه التلقائي القوي المستغرق دَفَعه إلى البحث والاستقصاء والتجريب اعتمادًا على نفسه. وقد انتهى الدكتور مايكل هارت في كتابه (المئة الأوائل) بأن وَضَع جون دالتون في المرتبة (93) بين عظماء الإنسانية الأكثر تأثيرًا في مسيرة الحضارة وعنه يقول : (( دالتون العالم البريطاني قدَّم النظرية الذرية ففتح المجال أمام التقدم العلمي الهائل في الكيمياء )) فدور المعلمين ينحصر في محاولة استيعاب ما أنجزه الرواد ونَقْل هذا الفهم إلى الطلاب ويتكرر المشهد في كل المواد مع كل الأجيال. كل الاكتشافات العظمى تحققت بواسطة الرواد العصاميين الذين اندفعوا للبحث والتجريب باهتمام تلقائي قوي مستغرق وقد كان مايكل فراداي واحدًا من أولئك الرواد الباهرين فهو في التعليم النظامي لم يتجاوز المرحلة الابتدائية لكنه كان يضطرم شغفًا في المعرفة فحقق كشوفًا عظيمة مذهلة صار لها أعظم النتائج في الحياة البشرية وكما قال والدمار كمفرت في كتابه (فتوحات علمية) : (( أما الفترة الثانية من مراحل الاختراع فقد حَفَلَتْ باستغلال الاكتشافات العبقرية لمايكل فراداي في ميدان الكهرباء لذلك أطلق الأدباء على هذه الفترة اسم عصر الكهرباء)) وكان آينشتاين يَعتبر فراداي قدوةً يحتذيه وكان يرفع صورته في مكتبه وقد وضعه مايكل هارت في المرتبة (28) بين العظماء الأكثر تأثيرًا في مسيرة الحضارة. إن تقدم الحضارة وازدهار المجتمعات مرهونٌ بالاستجابة للرواد السائرين عكس التيار فهم وحدهم الذين يغيرون الاتجاه الخاطئ فتصير كل الجهود داعمة في الاتجاه الجديد ولكن لايدرك ذلك سوى أهل البصائر النافذة وعلى سبيل المثال فإنه حين تلكأتْ الحكومة البريطانية بتخصيص مبلغ لتدريب الشغوفين بالعلم.. بادر العالم توماس هكسلي بالتأكيد بأن ما تنفقه الحكومة سيكون مربحًا للأمة واعتبر أن حصول أمة : ((على شخص مثل وات أو دافي أو فراداي)) هو ربحٌ عظيم. إذن همفري دافي من مفاخر بريطانيا ومن مشيِّدي مجدها وهو رجلٌ عصامي علَّم نفسه وكما جاء في كتاب (عمالقة العلم) : (( قام هذا الشاب العصامي باكتشاف جَعَلَه شهيرًا في انجلترا كلها)) ورغم أنه لايحمل أية شهادة فإنه صار أكثر محاضري المعهد الملكي بلندن شعبية : ((.. سرعان ما أصبح أستاذًا بمعنى الكلمة)) وليس همفري دافي سوى مثال على ما يحققه الاهتمام التلقائي القوي المستغرق أما الذين يضطرون إلى التعلُّم اضطرارًا فإن قابلياتهم ترفض استقبال ما يراد لها استيعابه ثم تمجُّه وتلفظه بعد أن يؤدي مهمته الوقتية. جيمس جول معدودٌ من أبرز رواد العلم إنه عالم عصامي فقد اعتمد على نفسه وحقَّق إسهامات علمية عظيمة فالشغف الملتهب هو المعلِّم الحقيقي يقول عنه تاريخ العلم بأنه اعتمد على قدراته الذاتية في استيعاب العلوم وانطلق منها إلى اكتشافاته العظيمة في مجال الطاقة وقد أشاد به أينشتاين وليوبولد إنفلد في كتابهما (تطور الأفكار في الفيزياء) ومما كتبه عنه العالم المصري الشهير علي مصطفى مشرفة : ((ما قام به العالم العصامي جيمس جول من التجارب فتحت بابا جديدًا للمشتغلين بالعلوم الطبيعية وقد أدَّتْ أبحاث جول إلى نشوء فرغ جديد من فروع المعرفة يُعرَف بعلم الديناميكا الحرارية)) وسوف أكتب عنه تفصيلاً في مكان آخر. جاليليو يُعَدُّ شاهدًا من أهم شواهد عبقرية الاهتمام التلقائي إنه مؤسِّس العلم الحديث فهو سار باتجاه معارض تمامًا لما تعلَّمه في الجامعة لذلك فَصَلَتْه الجامعةُ وحاكمته الكنيسة إنه رائد كان يتحرك عكس التيار السائد فإبداعه مضاعف لأنه استطاع التحرر مما تبرمج به من البيئة كما تمكَّن من مواجهة أساتذة الجامعة وصَمَدَ في تحديهم والانعتاق مما هو مألوف وبذلك شق للإنسانية مسار الفكر العلمي الحديث وجاء بعده نيوتن مؤسِّسًا لمرحلة جديدة من مراحل تطور الحضارة وقد توصل إلى اكتشافاته بحدس خارق بعيدًا عن الجامعة وأجوائها الرتيبة فلم يكن نيوتن واحدًا من المردِّدين ولكنه كان رائدًا من الفاتحين. وقبلهما كان دافنشي أعجوبةً إنسانية في تنوع اهتماماته وتعدُّد مجالات إبداعه في العلم والتجريب والاختراع والفن لقد علَّم نفسه بعيدًا عن التدجين فبقي مفتوح العقل متأجج القابليات فما وجَّه اهتمامه لأي مجال إلا أبدع فيه ومازالت أساليبه في التفكير وفي البحث والعمل مسارات يحتذيها المبدعون وعلى سبيل المثال فإن المبدع الباهر ستيف جوبز يصرح بإعجابه الشديد بدافنشي فهو في نظره ((فنانٌ عظيم وعالم عظيم)) ويوصي بالانفتاح على كل التخصصات اقتداء بدافنشي وإبداعاته المتنوعة. كوبرنيكوس الذي مثَّلَتْ اكتشافاته تحولا حاسمًا في الفكر الأوروبي جاء تأثيره العظيم في مجال اهتمامه التلقائي القوي المستغرق مخالفًا بذلك مجال تخصصه الدراسي والمهني فدراسته كانت في مجال اللاهوت وكان من رجال الكنيسة فجاءت اكتشافاته باتجاه مضاد للسائد فاضطر أن يخفيها إلى اللحظة التي رأى نفسه يغادر الحياة وهو على فراش الموت فما من رائد مؤثر إيجابيًّا على مسيرة الحضارة إلا وتكون حركته مضادة للاتجاه السائد. الاندفاع التلقائي للرواد هو صفةٌ عامةٌ أما رَدُّ الفعل العام على الاندفاع الريادي فهو يأتي غالبًا بل دائمًا مضادًّا وقد يكون الرد عنيفًا لكن هذه الحقيقة التاريخية المهمة مازالت غير مأخوذة في الاعتبار عند تقييم الأعمال الريادية فيُحسَب مثلاً ابن رشد من مفاخر الحضارة العربية رغم أن هذه الحضارة رفَضَتْه ولم تستجب له لا في حياته ولا بعد مماته. في علم الآثار تتجلَّى فاعلية الاهتمام التلقائي القوي المستغرق فقد كان قد استقر في الأذهان وخصوصًا عند المتخصصين في مجال الآثار أن قصة طروادة التي تحدث عنها هوميروس أنها قصة اسطورية وأنه لا وجود لحاضرة تاريخية بهذا الاسم لكن الألماني هنريك شليمان كان مقتنعًا من أنها تمثل حقيقة تاريخية لقد عاشت معه الفكرة منذ طفولته وظل مصرًّا على إثباتها وقد تمكن من ذلك بجهد خارق. إن هذا الرائد لم يتلق من التعليم النظامي سوى القليل ولكنه ثقَّف نفسه واستولت على ذهنه فكرةُ البحث عن طروادة وقد أنجز المهمة على نحو مدهش لايمكن أن يحصل إلا باهتمام تلقائي قوي مستغرق. توماس يونج طبيب انكليزي لكن كانت له أيضا اهتمامات وإسهام في الفيزياء ثم اهتمَّ بالآثار المصرية القديمة فتمكَّن من حل رموز الهيروغليفية المصرية من دون أن يكون على اتصال بالمكتشف الآخر شامبوليون وهذا مثالٌ على أن من يملك الاستعداد يستطيع بالاهتمام التلقائي أن يبدع أو ينجز في عدد من المجالات. كان الانكليزي دوجلاس نيكول رسَّامَ آثار وقد كان يصطحب معه بنته الطفلة ميري فنشأ عندها اهتمامٌ تلقائي عميق ليس برسم الآثار المعروفة كما كان يفعل أبوها إنما كانت تهتم بالبحث عن الآثار غير المعروفة وبهذا الاهتمام التلقائي القوي المستغرق صارت عالمة آثار مشهورة فمنحتها جامعة أوكسفورد الدكتوراة الفخرية. المحامي الأسباني سوتولا دَرَس القانون ومارس المحاماة كمصدر للرزق أما اهتمامه التلقائي الزاخر بالشغف فكان البحث عن الآثار وقد توصَّل إلى اكتشافات مهمة لكنه كغيره من الرواد السائرين ضد التيار قوبل في وقته من العلماء بالسخرية ثم أثبتت الأيام أنه قد حقق إنجازًا عظيمًا. هوارد كارتر من أشهر علماء الآثار وهو لم يتخصص دراسيًّا في هذا المجال لكنه اندفع إليه باهتمام تلقائي قوي مستغرق فاكتشف مالم يكن يخطر على بال أحد.. مقبرة توت عنخ آمون وهو اكتشافٌ عظيم فتح المجال لاكتشاف عوالم أخرى من الآثار المصرية الباهرة. لقد أمضى عمره في مجال اهتمامه وشغفه وعاش وحيدًا يبحث وينقب ويقرأ فقد كانت القراءة تسليته المتجددة وكان الاكتشاف هدفه العظيم وقد حقَّق فوق ما كان يحلم به. مؤسِّس علم الاجتماع أوغست كومت لم يستمر في الجامعة سوى ثلاثة أشهر ولكن اهتمامه التلقائي القوي المستغرق كان قد اتجه به إلى محاولة فهم طبيعة المجتمعات وما هي العوامل المؤثرة فيها سلبًا أو إيجابيًا وبهذا الاهتمام العميق تمكن من بناء فلسفته. لقد هداه بحثه إلى أن الأفراد ليسوا سوى قطرات في تيار المجتمع العام فالمجتمع يحدِّد اهتمامات واتجاهات وإرادات وتفضيلات أفراده فالفرد صياغة اجتماعية. لقد قيل عن أوغست كومت بأنه قد تأثر بالمفكر سان سيمون حيث كان سكرتيرًا له لكن هذا أيضا من العصاميين الذين بنوا ذواتهم فهو لم يلتحق بأية جامعة وإنما كان حر التفكير وإنساني النزعة وقد امتدَّ تأثيره إلى مفكرين كثيرين. إن تأسيس العلوم بواسطة العصاميين هو ظاهرة منطقية فالعلوم لم تخلق نفسها ليجدها الدارسون جاهزة وإنما تأسست بواسطة الرواد الذين يخترقون حواجز المألوف وقد يكون المؤسِّس قد تخصَّص في مجال لكن اهتمامه التلقائي القوي المستغرق يكون في مجال مغاير فيستحوذ على فكره ويستغرق نشاطه كما هي حال فلفريدو باريتو فقد كانت دراسته في الهندسة لكنه تخلى عنها وانهمك في دراسة الأوضاع الاجتماعية والإنسانية فأسهم إسهامات كبرى في علم الاجتماع وعلم الاقتصاد وفي الفلسفة. ومثلما أن باريتو تخلى عن مجال الهندسة وأسهم في علم الاجتماع وعلم الاقتصاد فكذلك فَعَل أيضا جورج سوريل فقد تخلى عن مهنة الهندسة واستحوذ اهتمامه التلقائي بالقضايا الإنسانية على فكره ونشاطه فجاءت إسهاماته في علم الاجتماع. أما جبريل تارد فرغم أنه متخصِّصٌ في القانون وأنه عمل في القضاء إلا أن اهتمامه التلقائي القوي المستغرق كان باتجاه مغاير فقد حاول باهتمام تلقائي قوي مستغرق أن يفهم الظواهر الاجتماعية فجاءت اسهاماته في مجال علم الاجتماع الذي اهتمَّ به وليس في مجال القانون الذي تخصَّص به أكاديميًّا وقد صدر له العديد من الكتب المهمة في علم الاجتماع أهمها كتابه (قوانين التقليد) وقد كان عميقًا في تحليله للظواهر الاجتماعية وتعليل السلوك البشري. عالم الاجتماع الأشهر ماكس فيبر لم يتخصص أكاديميًّا في هذا المجال وإنما تخصص في القانونه ودَرَس الاقتصاد والتاريخ وشغل في حياته وظيفة أستاذ القانون ثم شغل وظيفة أستاذ العلوم السياسية ثم صار استاذًا للاقتصاد ثم أستاذًا لعلم الاجتماع ورغم أن اهتمامه بعلم الاجتماع جاء في آخر حياته إلا أن إسهامه فيه كان أساسيًّا فصار به من رواد علم الاجتماع.
مشاركة :