برغم ظهور قلم أنيس الجميل في الزاوية المقابلة، بقينا لا نلتقي اجتماعيا. برغم أسفاره وأسفاري لم تكن هناك تقاطعات كثيرة إلى أن جمعتنا مجالس الأمير عبد العزيز بن فهد. ذاب الجليد شيئا فشيئا. ثم عرفت موقفه الحقيقي مني عندما قدم إليّ 3 من كتبه بإهداء واحد وكلمات كبيرة جدا: «إلى كاتبنا الكبير». شعرت بامتنان، وأيضا بامتنان إلى أن المصري الكبير لا ينظر إلى جاره على أنه مجرد «شامي» في الجوار. واكتشفت في أنيس في تلك المجالس شخصية فريدة أخرى، هي شخصية الراوي المدهش. فقد كان جعبة حافلة من الذكريات والانطباعات. وخلف ملامحه الجديّة كان يخفي قلبا طيبا وفلاحا نبيلا. ومثل معظم الكتّاب كان كثير النقد للمرأة والزواج، في حين كرّس معظم سنواته لخدمة زوجته التي أصيبت بالشلل. وكانت سيدة راقية، لم تمنحه أبناء، لكنها ملأت بيته حنانا. وفي سنواته الأخيرة كان طبيبه المرافق ابنها من زواج سابق. بدا من كتابات أنيس الأخيرة هنا أنه أحب النساء كما أحب اللغات. ولمّح إليّ أنه لم ينسَ سيدة إيطالية شغفته في شبابه وظل مولعا بها. عَشِق اللغات والنساء والسفر. ولم يكن وحيدا بين الصحافيين، الذين كان أستاذهم في هذا الحقل أيضا محمد التابعي، الذي وصفه أنيس بـ«أستاذ الصحافة المصرية الحديثة». وقد أفرط التابعي في كل شيء وتوفي مفلسا. وقبيل وفاته بقليل استدعى أنيس منصور إليه وسلّمه أوراقه الخاصة وكميّات من صور الصديقات السابقات التي كان يخفيها عن زوجته المتبرمة بعلاقاته، وخصوصا بالمودة العاصفة التي جمعته مع أسمهان. أدرك أنيس مبكرا أن تفاصيل الروايات الكبرى تكمن في حياة الكتّاب الكبار، فحاول أن يكون قريبا منهم. ويُعتبر كتابه «في صالون العقاد» أهم عمل صحافي وضعه. وأعتقد أنه أيضا من أهم كتب السيرة الأدبية بأي لغة من اللغات. ولا يزال كتاب «الصالون» بعد عقود على غياب العقاد ونشوء جيل لا يعرفه، من أكثر الكتب مبيعا. كان عباس محمود العقاد عملاقا نادرا في الفكر والسياسة والأدب، لكن كتاب أنيس عنه وسّع الشهّرة من حوله. ولم يتسنّ لكاتب أو كتاب مشابه لأنداده وأبناء مرحلته مثل طه حسين وتوفيق الحكيم وخالد محمد خالد، الذين كتبوا بأنفسهم سيرتهم الشخصية أو فصولا منها. وضعت صحافية من «الأهرام» كتابا عن سيرة أنيس، فتى الفقر والفكر والترحال. وبأسلوبها الدفّاق الخفّاق الرقراق، وضعت عنه سناء البيسي في «الأهرام» أيضا سيرة مختصرة ملأتها كالعادة بالدهشة للكبار والإعجاب بأكثر كتّاب مصر تنوعا. كتب أنيس حتى في الفلك وأبدع في كل ما كتب. إلى اللقاء..
مشاركة :