هل تنتابك الحيرة حيال ما يجري في «الشرق المعقد» هذه الأيام؟ فأمامك مأساة مستمرة في سوريا وصراع دموي بالعراق وحرب أهلية متعددة المستويات باليمن وفراغ سلطة في لبنان، ناهيك بالهجمات الإرهابية اليومية في كثير من دول المنطقة والتدفق اللانهائي للاجئين في جميع الاتجاهات. ويبقى التساؤل: كيف يمكن التكيف مع كل هذه المعاناة أو على الأقل فهمها؟ من بين سبل تحقيق ذلك البحث عن تفسيرات كلاسيكية، إن لم يكن اعتذارات صريحة. على أي حال، ما الذي يمكن أن يتوقعه المرء من مزيج فتاك من الاستبداد والفقر والتعصب والكوابيس الاستعمارية والجبن الفكري؟ لكن كيف تناول محمود كحيل هذا التابلوه من الخراب السائد بالشرق الأوسط؟ يذكر أن كحيل المتوفى عام 2003 يعد حاليا واحدا من أفضل رسامي الكاريكاتير بالشرق الأوسط خلال القرن العشرين. وبعد مرور عقد على وفاته، تم نشر مجموعة من أعماله داخل موطنه لبنان تحت عنوان لافت «هكذا رسم كحيل». ويعد هذا الكتاب ثمرة جهود مشتركة من أسرة كحيل وأصدقائه المقربين، ويعتبر بمثابة جوهرة حقيقية من حيث جودة إنتاجه التي تعد شهادة بحق صناعة الطباعة اللبنانية، والأهم من ذلك النطاق الواسع الذي تتناوله الرسومات الكارتونية الواردة به، والتي انتقت معظمها ابنته مخرجة الأفلام الوثائقية، (دانا). بالنسبة لصحيفة «الشرق الأوسط»، كان لكحيل وسيظل دوما مكانة خاصة، فعلى امتداد أكثر من عقدين كان كحيل رسام الكاريكاتير السياسي الأساسي لدى الصحيفة. في الوقت ذاته، كانت له إسهاماته المنتظمة لدى «آراب نيوز» وهي الصحيفة اليومية الشقيقة لـ«الشرق الأوسط» الصادرة بالإنجليزية، ومجلة «المجلة» الأسبوعية الصادرة عن المؤسسة ذاتها. ومع التنقل عبر صفحات «هكذا رسم كحيل»، يصادف المرء رسوما كاريكاتيرية متعددة نشرتها «الشرق الأوسط» و«المجلة»، توفر تأريخا فريدا لأحداث عالمية، مع التركيز دوما على الشرق الأوسط كما رآه رجل يحمل بداخله قدرا كبيرا من نفاذ البصيرة والإنسانية. وعند معاينة هذه الرسومات اليوم ينتاب المرء شعور غريب بأن كحيل أبدعها هذا الأسبوع، بل اليوم، وليس من 5 أو 10 أو 20 عاما ماضية. هل تبحث عن ذباحي «داعش»؟ حسنا، هم موجودون بالفعل في رسومات كحيل، لكن تحت مسميات أخرى. هل تشعر بالغضب حيال سلبية زعماء العالم أمثال باراك أوباما؟ ستجد سابقيهم في رسومات كحيل في صورة جيمي كارتر وجورج بوش الأب. هل تتساءل لماذا يتصرف العرب على هذا النحو؟ مجددا، يطرح كحيل الإجابة التي ربما لا تروق لك، لكن لا يمكنك رفضها. في إطار إجابته، ابتكر كحيل شخصية عربية رفض تصويرها بالعمامة التي يفضلها رسامو الكاريكاتير الغربيون. بدلا من ذلك، تبدو شخصية العربي في رسومات كحيل في صورة شخص مستدير وبدين ذي شارب ضخم. إلا أن هذا المظهر ليس سوى قناع، ذلك أنه عند إمعان النظر به يبدو متحيرا ومرتبكا، وقبل كل ذلك ضحية معاناة كبيرة. هذا العربي ضحية حكام يفرضون أنظمة جامدة، إن لم يكن ما هو أسوأ من ذلك، ومثقفين كاذبين، وصحافيين يعدلون الأخبار مقابل «مظاريف بنية اللون» معبأة بالمال، ورجال دين يزعمون أن الدين هو فقط ما ينطقون به. في بعض رسوم الكارتون، يبدو هذا العربي ورأسه مليء بالدعايات والأكاذيب تأتيه عبر مضخة تمثل وسائل الإعلام الخاضعة لسيطرة الدولة. ويرسم كحيل الجامعة العربية باعتبارها النسخة الحديثة من برج بابل، حيث تضم بين جنباتها أناسا تفرقهم اللغة التي يفترض أنها تجمعهم. الأسوأ من ذلك، أن اللافتات الموجودة بالمبنى بالإنجليزية. والملاحظ أنه رغم تركيزه بالأساس على التعليق على أحداث العالم العربي، فإنه لم يكن قط ضيق الأفق، حيث تتضمن رسوماته تعليقات لاذعة على أحداث محورية وقعت في النصف الثاني من القرن العشرين، مثل الحرب الباردة واستيلاء الملالي على الحكم بإيران، وسقوط سور برلين، وتفكك الإمبراطورية السوفياتية، والحرب الإيرانية - العراقية، وحربي الخليج الأولى والثانية، وتفكك يوغوسلافيا، وصعود الصين برأسماليتها الجديدة، والحروب الممتدة لعقود في أفغانستان، والمجاعات والصراعات الدموية المتكررة في أفريقيا، والحروب الأهلية بالجزائر والسودان واليمن، واشتعال الوضع بالشيشان. وتتضمن أعمال كحيل أيضا رسومات لرجال ونساء ذاع صيتهم على الصعيد السياسي. مثلا، ظهر في أعماله جميع الرؤساء الأميركيين بدءا من جيمي كارتر، علاوة على قادة الاتحاد السوفياتي والشخصيات البارزة في الصين. وفي نادي الشخصيات المارقة، نجد رسومات للزعيم الصربي رادوفان كارادزيتش، والمستبد العراقي صدام حسين، والطاغية الإثيوبي منغستو هيلا مريام. كما كان كحيل أول رسام كاريكاتير يرسم أسامة بن لادن، الرجل الذي نال شهرة واسعة باعتباره العقل المدبر وراء «القاعدة». هناك بعض الشخصيات التي بدا واضحا أنها راقت لكحيل، مثل بيل كلينتون. وحتى قبل أن يصبح مرشحا للرئاسة للمرة الأولى، طلب مني كحيل أن أنقل لـ«الرئيس القادم» رسم كاريكاتيري وضعه له. وأظهر الكاريكاتير صورة حاكم أركنساس الشاب وهو يخرج من قارورة مثل جني ويتضخم ويتضخم. وعندما رأى كلينتون الرسم علق قائلا: «هذا يعني أننا سنفوز!». وأبدى كحيل تعاطفا مع بوريس يلتسين الذي كان يرسمه دوما حاملا زجاجة خمر، باعتباره شخصا في حالة سكر تام تجعله عاجزا عن إيذاء أي شخص. في المقابل، حمل بداخله كراهية بالغة تجاه رئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون، وغالبا ما كان يصوره في صورة طائر كاسر، بينما كان يصور الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات كشخص مولع بذاته يعشق تضخيم صورته. وقد وصف بعض المعلقين كحيل بأنه «ساخر»، لكنني لا أتفق مع ذلك، لأن الساخر يستسلم لما يراه أمرا محتوما. أما كحيل فلم يستسلم أبدا. لقد كان مقاتلا مسلحا دوما برزمة من الأقلام مختلفة الألوان والأشكال. الأهم من ذلك، أنه حمل بداخله حساسية كبيرة بينما كانت تخلو نفسه من المرارة، وهو ما يجعله بعيدا تماما عن السخرية. ورغم اعتزازه الدائم بكونه لبنانيا، فإنه كان لندنيا أيضا، حيث قضى فترة طويلة من حياته المهنية في العاصمة البريطانية. وكان من بين شخصياته البريطانية المفضلة مارغريت ثاتشر، التي تعكس رسوماته لها دوما مزيج من مشاعر الإعجاب وعدم الارتياح. قد يكون الوصف الأمثل لكحيل هو «المواطن العالمي»، حيث نشرت أعماله في أكثر من 100 صحيفة ومجلة عبر أرجاء العالم، منها «تايمز» و«وول ستريت جورنال» و«لو موند». كان كحيل يحب العمل بمفرده تماما، ولم يحضر يوما اجتماعات التحرير، وسرعان ما أدرك رؤساؤه أنه ليس باستطاعتهم أن يملوا عليه ما يفعله وما لا يفعله. وللتعرف على أحدث التطورات، حرص كحيل على القراءة بكثرة وغالبا ما عقد مناقشات مع الصحافيين الذين يتناولون الأحداث الحالية. وخلال أعماله، كان دوما يترك مساحة صغيرة من الغموض، وكان يرسم على الهامش غرابا، ربما في إشارة خفية إلى أن «الأسوأ لم يأت بعد».
مشاركة :