أميل كثيراً للحديث عما بعد الأزمة هذه المرة بدل الحديث عن العوامل المسببة لها والخلفيات التاريخية المؤثرة فيها من باب عدم الإغراق في المسببات التي أشبعت بحثاً عبر الصحف والقنوات الفضائية ووسائل التواصل الاجتماعي، ولكي يكون الحديث ذا جدوى وفائدة لا بد من تناول مثل تلك الأمور الحساسة بقدر عالٍ من الشفافية والوضوح وتغليب المصالح العامة على أي مصلحة فرعية أو فئوية أخرى. حادثة الدالوة وما تبعها من مواقف رسمية وشعبية تدق جرس الإنذار لأهمية تحسس مدى الخطر الطائفي الذي صنعناه عبر عقود من الزمن بقصد أو بغير قصد، ومدى الاستقطاب الطائفي الداخلي والخارجي وحجم رقعته وتأثيره في انتقال النزاعات من دائرة الأفكار النظرية الفكرية إلى المظاهر المسلحة والتصفيات الجسدية، كما أن التفاعل بصورته الإيجابية الحالية مع الحادثة يجب أن يكون ممارسة مستمرة دائماً وليس ردة فعل وقتية نمارسها مؤقتاً ثم ما تلبث أن تعود حليمة إلى عادتها القديمة! الانتماءات المذهبية والقبلية والمناطقية كحالة طبيعية واقعة لا مفر منها قد تنحو نحو وجهتين متباينتين تماماً، فتارة تُستثمر لتأجيج الصراع بين المختلفين عبر بث الخطاب الطائفي أو الفئوي المبني على لغة التخوين والتأليب والاستعداء لتحقيق مكاسب فئوية تتمثل في غلبة جماعة على أخرى، وتارة تستثمر كنوع من أنواع التنوع الاجتماعي الطبيعي الذي يثري المجتمع إذا تم تحييد لغة التعصب والعداء ضمن قواعد قانونية وهوية وطنية جامعة لمختلف مكونات المجتمع التي تذوب وتندرج تحتها كل الهويات الفرعية الأخرى مع الاحتفاظ بالخصوصيات الفرعية ضمن تنظيم الإطار القانوني. المرحلة الحساسة التي تمر بها دول المنطقة التي نحن جزء منها تستدعي العمل الجدي على إيجاد صيغة لقانون يجرم كل أنواع التعصب الطائفي والقبلي والمناطقي المكتوب والمسموع والمرئي عبر مختلف الوسائل الإعلامية والتعليمية وسن الإجراءات العقابية بحق مرتكبي تلك التجاوزات لخلق حالة من الاستقرار الاجتماعي العام الذي لن يستقيم المجتمع ويستقر إذا تركناه مفتوحاً على مصراعيه للاجتهادات الفردية والتفسيرات الفضفاضة؛ لذا من المهم توصيف أنواع التعديات بشكل مفصل ودقيق لكي لا نترك مجالاً للالتفاف عليها من قبل المتمصلحين والمتاجرين بالطائفية من حالة الشحن التي تتصاعد وتتعالى. الاستفادة من تجارب المجتمعات ذات التنوع الثقافي والعرقي والديني وغيره التي تتمثل في خلقها حالة الاستقرار الاجتماعي الكامل والمضي قدماً في طريق التنمية هو ما يجب علينا الأخذ به ومحاكاته في هذه المرحلة الحساسة، ولعل المثال الماليزي هو الأقرب إلينا كون ماليزيا دولة إسلامية الهوية سياسياً، ومع هذا استطاعت دمج الهويات المتعددة الأخرى الدينية والعرقية والثقافية واللغوية الكثيرة والمتباينة تحت هوية وطنية جامعة انعكست إيجاباً على الاندماج والاتحاد الوطني وأسهمت في تقدم الدولة على مختلف المستويات والأصعدة. أعتقد أن الوقت لم يفت لتحقيق هذا الأمر، وهذا ما أستشفه على الأقل من حجم التفاعل الشعبي مع حادثة الدالوة ذات الصبغة الطائفية، وكيف فوّت المجتمع بمختلف أطيافه الفرصة على من كان يراهن على إشعال فتنة طائفية تحاكي مثيلاتها في العراق وسوريا وجرّ نارها المستعرة إلى المملكة، هذه الفرصة الثمينة التي قد لا تتكرر هي الوقت المناسب لسن وتشريع قانون تجريم التعصب والطائفية واحترام الاختلافات والتنوع وتغليب الهوية الوطنية والانتماء الوطني على أي انتماء آخر.
مشاركة :