استيقظ الابن في الساعة السابعة صباحًا استعدادًا ليوم دراسي جديد، ثم توجه إلى الحمام ليغير ملابسه، واتجه بعد ذلك صوب طاولة الطعام ليتناول فطوره مع والديه، دقائق قليلة وتناهي إليه صوت الأتوبيس المدرسي، هب واقفًا من مكانه حاملًا حقيبته على ظهره، مودعا أمه عند عتبة المنزل التى تجاوزها بعد أن طبعت قبلة على جبينة.استقل الأتوبيس في سرعة وعجل، ثم أخذ مقعده بجانب صديقه المقرب بعد أن ألقي علىه التحية، وفي أثناء السير إلى مدرسه قرر أن يراجع ما درسه بالأمس،ولكنه فوجئ عندما فتح حقيبته أنه قد نسي لفة الساندوتشات على طاولة الطعام وبجانبها مصروفه اليومي، ولكنه لم يعر الأمر اهتماما، وشرع في خروج كتابه، كان الامتحان همه الأكبر الذي شغله عن ماحدث،خاصة أن المعلم قد أخبر التلاميذ أنهم سيؤديون الامتحان خلال الحصة الأولى، ولم يعد يفصله عن المدرسة إلا بضع خطوات.وفي الظهيرة، عاد الابن من المدرسة، وقد استقبلته أمه على حال غير الذي ودعته علىه، كانت ملامح الحزن تكسو وجه بالكامل، وعندما سألته عن سبب هذه الحالة، ألقي بالحقيبة جانبًا، وارتمي بحضنها، ظنت انه لم يبلي بلاء حسنا في الامتحان، فمسحت على شعره بلطف وشرعت في مواساته وحفزته بأن يعوض في امتحانات نهاية العام الدراسي، ولكنه واصل بكاءه وتجاهل كلماتها الروتينية، فكلما حاولت أن تخفف عنه، كلما زادت رعشة جسده وشهقاته.توقفت عن الكلام لعله يهدأ من تلقاء نفسه، وبعد نوبة بكاء دامت أكثر من نصف ساعة، بدأ يتكلم بصوت محشرج يشوبه أثر البكاء.قال بصوت متهدج: اكتشفت في الصباح أننى قد نسيت ساندوتشاتي على طاولة الإفطار ولكنى لم أبإلى في أول الأمر، وعندما انتهيت من تأدية الامتحان، وأذن لنا المعلم بتناول قسط من الراحة حتي نتمكن من مواصلة إلىوم الدراسي، أخبرت صديقي بأنني لم أستطع إلىوم شراء اية حلوي لأننى لا أملك مالًا كافيًا لها. انفجعت من ردة فعله عندما رأيته ينصرف عنى متجهًا نحو صديق آخر يطلب منه مصاحبته خلال مدة الفسحة بعد أن تناولا طعامهما سويًا. وعندما دق الجرس مشيرًا إلى انتهاء الفسحة، توجهنا إلى الفصل وجلس بجانبي كأنه لم يفعل شيئا.واستطرد قائلا وقد عودته نوبة البكاء من جديد: ظلت عيناي متفحصة ملامح وجهه التى ظلت جامدة لا تحمل أي تفسير لما بدر منه من تصرفات خلال الأربع الحصص المتبقية على إنتهاء إلىوم الدراسي.هرولت الأم إلى المطبخ من أجل إعداد الطعام له ظنًا منها أن هذا الضيق والدموع التى انهمرت على خديه سببها صرخات بطنه الجائعة.(ولكنه أمسك يدها بقوة جابرا إياها على الجلوس مرة أخرى)استكمل قائلا :لم يكن ألم الجوع شيئا مقارنة بالألم الذي شعرت به حيال ذلك الصديق الذي قد رافقته خلال سنواتى الدراسية الماضية، فقد خذلنى إلىوم خذلان لم أكن أتوقعه قط.التفت إلى أمه قائلا: فقد تعرض لنفس الموقف خلال السنة الماضية،ولكن ردة فعلى كانت مخالفة تمامًا عن ردة فعله التى حدثت إلىوم،فقد أمددته بالطعام والشراب وقسمت مصروفي معه مناصفة .وعندما تعرض لوعكة صحية كنت أول الزائرين له.رفع عينيه إلى أمه في تساؤل: هل نسي كل هذا أم أنه يدعي النسيان؟فكل ما صدر منه إلىوم ينم على التناسي وليس النسيان، فعندما رأيت إلىوم حقيبتى فارغة نظرت إليه لكي استمد منه الأمان ولكن تصرفاته إلىوم أصابتني بالرعب والفزع، كان اطمئنانا مزيفا رسمته من وحي خيإلى واستطاع الواقع أن يحطمه بكل ضراوة.احتضنت الأم ابنها ثانية، وأخذت تختلق لصديقه الأعذار لتهون عنه، ولكنه كان يعلم في قرارة نفسه أنها أعذار مفتعلة، كان يدرك تمام الإدراك أن صديقه قد فعل ذلك بمحض إرادته وبكامل وعيه، لذا عقد عزمه بينه وبين نفسه على أن يشطب اسمه من دفتر أصدقائه.رفع رأسه من على صدر أمه، وقد تظاهر أمامها بأنه قد اقتنع بأعذارها الواهية بشأن صديقه، وطلب منها أن تعد له حصته من الطعام،وقامت هذه المرة دون أن يعترض طريقها، وكأنه أراد أن تغادر المكان فتحجج بآلام الجوع فجأة.أسند ظهره إلى المقعد، وسرح في فراغ الغرفة، وبدأ يفكر في أن يغير تفكيره بشأن من حوله، فحدث نفسه قائلا: أول الدروس المستفادة هي ألا اتعشم في أحد ثانية، وعزم على ضرورة التأكد من وجود طعامه داخل حقيبته يوميًا حتى لا يحتاج لأحد.ويبقي السؤال :هل سيظل هذا الموقف عالقا في ذهنه وبالتإلى ستتشكل علاقاته بكل من حوله على محمل الحذر والربية أم أن الزمن كفيل أن يمسح هذا الحدث من ذاكرته؟في عالم طفل ضيق الأفق لا يتجاوز عمره العشر سنوات، يصنف هذا الحدث كارثة بالنسبة له، ولكن مع مرور الزمن سيكتشف أن أمر الساندوتش يسير مقارنة بالتجارب التى سيمر بها خلال مراحله العمرية المختلفة، فكلما تقدم في العمر، كلما كانت الضربة أقوي وأقرب إلى الصميم، ومن ثمّ تترك في النفس أثرها الأصعب والأوجع الذي ينتج عنها النضج الذي يدفع صاحبه على التجاوز والتخطي من أجل مسايرة الحياة.
مشاركة :