عندما أعلنت شركة جيلي الصينية لصناعة السيارات الشهر الماضي استحواذها على نحو 10 في المائة من أسهم إمبراطورية ديملر صانعة سيارات مرسيدس بنز، ارتفعت شهقات الصدمة في برلين إلى عنان السماء. الساسة والمعلقون كانوا غاضبين. وأراد أعضاء البرلمان معرفة الكيفية التي تمكنت بها شركة صناعة السيارات الصينية من الإيقاع برمز من رموز الصناعة الألمانية.تقول عضو البرلمان كيرستين أندريا، خبيرة حزب الخضر في شأن السياسة الاقتصادية: "المزعج هو الطريقة التي استولت بها شركة جيلي على جزء من شركة ديملر دون أن يتوقع أي شخص ذلك. في أحد الأيام، استيقظ ديتر زيتشي الرئيس التنفيذي لشركة ديملر ليجد أن لديه مساهما رئيسا جديدا، وهذا تغيير ضخم في تركيبة ملكية الشركة".كونها الغارة الأحدث في سلسلة من الأحداث المثيرة للجدل في الصناعة الألمانية والخدمات المالية، أدت الصفقة إلى ظهور مخاوف طويلة الأمد حول النوايا الصينية. من وجهة نظر البعض في ألمانيا، فإن الصين في مهمة هدفها تجريد ألمانيا من درايتها التكنولوجية وخبرتها الهندسية، للحلول محلها كواحدة من القوى الصناعية الرائدة في العالم.الصفقة، من منظور ألمانيا، هي عملية مدفوعة وموجهة من قبل الحكومة الصينية. حتى الاستثمارات الخاصة البحتة مثل استحواذ شركة جيلي على شركة ديملر هي موضع شبهة. يقول أحد كبار المسؤولين الألمان: "الخوف هو أن تكون الدولة نوعا ما وراء هذه الصفقة، وأن تكون مصالح الصين الجيوسياسية والاقتصادية مرتبطة بها".يصر رئيس مجلس إدارة شركة جيلي لي شوفو على أنه صاحب مشاريع خاصة لا علاقة لها بالسلطات الصينية. في مقابلة مع الصحيفة الألمانية الشعبية بيلد آم سونتاج في وقت سابق من هذا الشهر، قال إنه لم يحصل على "قرش" من بكين مقابل شراء أسهم في شركة ديملر. وإن هدفه ليس شفط التكنولوجيا الألمانية، بل التعاون في مجال السيارات الكهربائية وذاتية القيادة، بحيث تتمكن الشركتان من درء هجمة المنافسين في وادي السليكون أمثال إيلون ماسك. وقال: "بالتأكيد لا يمكننا التخلي عن الميدان وتركه له".مع ذلك، قدم لوسائل الإعلام الرسمية الصينية رسالة مختلفة نوعا ما. في مقابلة مع قناة سي سي تي في الصينية، قال إن الهدف من الاستثمارات هو "دعم نمو صناعة السيارات الصينية" و"خدمة استراتيجياتنا الوطنية". التقارير التي تفيد بأن شركة جيلي كانت تضع أنظارها على تقنية بطاريات السيارات الكهربائية في شركة ديملر – جوهرة تاج الشركة - عملت على تصعيد الشعور بالخطر في برلين.في الواقع، تتضمن المخاوف في ألمانيا اعتبار صفقة شركة ديملر التي أبرمها لي جزءا من مبادرة "صنع في الصين" بحلول 2025، وهي خطة الرئيس تشي جين بينج لعشر سنوات مقبلة، تهدف إلى تحويل الصين من مكان للتصنيع ذي تكاليف منخفضة إلى بلد قوي مهيمن في مجال التكنولوجيا المتقدمة في عشر صناعات متقدمة، بما فيها المركبات الكهربائية. وهي استراتيجية تراها ألمانيا بمنزلة تهديد مباشر لمكانتها الرائدة في صناعة السيارات.يقول ثورستين بينر، مدير معهد السياسة العامة العالمي في برلين: "إن نجحت مبادرة صنع في الصين عام 2025، من الأفضل للصناعة الألمانية أن تحزم أغراضها وتعود إلى الوطن".ألمانيا ليست البلد الوحيد الذي يشهد ردود فعل عنيفة ضد عمليات الاستحواذ الصينية. في الولايات المتحدة، هنالك قانون يشق طريقه خلال الكونجرس، من شأنه أن يزيد بشكل كبير من عمليات التمحيص للاستثمارات الواردة، لا سيما في مجال التكنولوجيات الحساسة مثل الذكاء الاصطناعي أو الروبوتات، التي هي جزء من استراتيجية صنع في الصين 2025.القلق حاد بصورة خاصة في ألمانيا، حيث تتخصص بالضبط في المجال الذي تتطلع الشركات الصينية إلى الدخول فيه، في الوقت الذي ترتفع فيه تكاليف العمالة لديها - تصنيع المنتجات المتطورة.وقد تزامن الاستياء في مجالس إدارة الشركات الألمانية مع حصول تحول ضخم في طريقة تفكير النخب السياسية في الصين. يقول ديرك شميدت، خبير السياسة الخارجية الصينية في جامعة ترير: "يتزايد لديك الشعور بأن ألمانيا والصين تنتقلان من كونهما شريكين لتصبحا متنافستين، ومن ثم خصمين. التغير في المزاج العام مذهل، حيث إنه آخذ في الحدوث بشكل سريع جدا".الضجة التي أحاطت بصفقة شركة جيلي ما هي إلا أحدث مثال على الاستثمارات الصينية التي تثير الاعتراض في ألمانيا. الاستثمار الأكثر إثارة للجدل هو عملية استحواذ شركة تصنيع الأجهزة الصينية ميديا بقيمة 4.5 مليار يورو على شركة كوكا، أكبر شركة لصناعة الروبوتات الصناعية في ألمانيا في عام 2016.ومن ثم في شباط (فبراير) من العام الماضي، حصل التكتل الصيني مجموعة إتش إن إيه على حصة نسبتها 3 في المائة في دويتشه بانك، ثم رفعت الحصة لاحقا إلى 9.9 في المائة - بحيث أصبحت أكبر مساهم في البنك.استثارت هذه الغزوات ردود فعل عنيفة. بعد صفقة شركة كوكا، سحبت برلين بشكل مفاجئ موافقتها على استحواذ شركة فوجيان جراند تشيب للاستثمار على شركة تصنيع معدات الرقائق الألمانية أيكسترون. سحبت الشركة في وقت لاحق عرضها، بعد أن أوقفت الإدارة الأمريكية للرئيس باراك أوباما آنذاك الصفقة لأسباب تتعلق بالأمن القومي، لارتباط شركات أمريكية بشركة أيكسترون.ومن ثم في العام الماضي، شددت برلين قوانينها فيما يخص الاستثمارات الخارجية، بحيث عززت صلاحيات الوزراء لعرقلة عمليات الاستحواذ الأجنبية بنسبة 25 في المائة أو أكثر، من الشركات التي تعمل في مجال "البنية التحتية الحساسة". كما منح هذا التغيير الحكومة أيضا فترة زمنية أطول للتحقيق في عمليات الاستحواذ، حيث وسع الإطار الزمني من شهرين إلى أربعة أشهر.يقول بيورن كونراد، رئيس شركة الاستشارات سينوليتيكس التي تركز على الصين، إن لذلك دلالة مهمة. ويقول: "فترة أربعة أشهر يمكن أن تشكل دهرا بالنسبة لصفقات الاستحواذ والاندماج. وهذا يعني فترة زمنية أطول من عدم اليقين".اشتدت الجهود الحمائية في ألمانيا في العام الماضي، عندما ضمت الصفوف مع فرنسا وإيطاليا للتعاون في مبادرة مشتركة لاستحداث عمليات فحص أكثر صرامة لعمليات الاستحواذ الأجنبية على شركات الاتحاد الأوروبي، خاصة الشركات التي تتلقى دعما مشبوها من الدولة. هذا التحرك قد يكون الخطوة الأولى نحو تأسيس آلية على مستوى الاتحاد الأوروبي، مشابهة للجنة الاستثمارات الأجنبية القوية في واشنطن، أي سفيوس.كان رد الفعل العنيف مدفوعا بشكل جزئي من خلال الغضب مما يعد غياب المعاملة بالمثل في التعاملات بين الصين وألمانيا. يقول ديتر كيمبف، رئيس المنظمة الرئيسة للأعمال التجارية في ألمانيا بي دي آي: "من المقلق ضآلة حجم تطبيق الصين لمبدأ الانفتاح، الذي تطالب به بكل وجه حق من الدول الأخرى، في أرضها".البرود الجديد الذي تشعر به ألمانيا إزاء الاستثمارات الصينية أدى إلى حصول تراجع ملحوظ في نشاط إبرام الصفقات. وقد أسهمت الصين نفسها بتشديد القبضة التنظيمية على الصفقات الصادرة عنها، وسط مخاوف من أن عمليات الاستحواذ كانت آخذة في استنزاف احتياطيات الصين من العملات الأجنبية. مجموعة إتش إن إيه واحدة من المجموعات الصينية التي تخضع الآن لضغوطات لكي تبيع الأصول الخارجية: كشفت الشهر الماضي أنها قد خفضت حصتها في دويتشه بانك لتصل إلى 9.2 في المائة.مع ذلك، تجاوزت صفقة شركة جيلي الاتجاه العام، وأنعشت المخاوف من التعدي الصيني. يقول مسؤول رسمي ألماني آخر: "رد فعل الجمهور كان ضخما لأن شركة ديملر تمثل الاقتصاد الألماني، حتى أكثر ما يمثله دويتشه بانك".أثار لي أيضا الدهشة من خلال الحصول على حصة بقيمة تسعة مليارات دولار بأسلوب أتاح له التحايل على قواعد الإفصاح الألمانية الصارمة. في الأحوال الطبيعية يجب على المستثمرين إخبار السلطات عند تجاوز عدد أسهمهم التي تتمتع بحقوق التصويت 3 في المائة. استطاعت شركة جيلي الالتفاف على ذلك بمزيج ذكي من المشتقات المالية والتمويل المصرفي وخيارات الأسهم.شعر بعض السياسيين الألمان بأن شركة ديملر و"بافين" هيئة التنظيم المالية في البلاد، تعرضتا للخداع. يقول هانس ميتشيلباخ، عضو برلمان وخبير مالي من تكتل حزبي (الاتحاد الديموقراطي المسيحي والاتحاد الاجتماعي المسيحي) الذي تترأسه المستشارة أنجيلا ميركل: "تبدو العملية برمتها مصممة بشكل جيد". ويقول إن من الواضح أن شركة جيلي "استغلت المناطق التشريعية التي لا توجد بشأنها قواعد محددة" بغية تجنب القانون. قالت السيدة ميركل نفسها إنه قد تكون هنالك "ثغرات" قانونية بحاجة لعلاج. شعر بعض السياسيين بالقلق إزاء حصول تضارب محتمل في المصالح: تمتلك شركة جيلي القابضة أيضا حصة أقلية في شركة فولفو، التي تتنافس مع قسم الشاحنات الثقيلة في شركة ديملر.تقول بريجيت زايبريس، وزيرة الاقتصاد، إن بوسع لي أن يطالب الآن بمقعد في مجلس إدارة شركة ديملر الإشرافي: إن تم تمثيل الشركات المنافسة هنا، ستحصل مشكلة". قال لي في مقابلة مع صحيفة بيلد إن حصوله على مقعد في مجلس إدارة شركة ديملر "ليس أولوية" بالنسبة له، وقال إنه ليست لديه أية خطط لزيادة حصته - "في الوقت الحالي".عدم ثقة ألمانيا بالدوافع الاقتصادية للصين جزء من فتور أوسع نطاقا في العلاقات بين برلين وبكين. المخاوف إزاء محاولات الشركات الصينية تختلط مع مخاوف متعلقة بالمركزية المتزايدة للسلطة، والسياسات الخارجية الأكثر حزما في ظل رئاسة تشي، وهو اتجاه كان قد شدد عليه تحرك الحزب الشيوعي الصيني الحاكم، بإقرار التحرير المطلق لفترات الولاية الرئاسية هذا الأسبوع.الأمور التي تدفع للشعور بالسخط آخذة في التضاعف. في أواخر العام الماضي، كشف جهاز الأمن الداخلي في ألمانيا النقاب عن أن وكالات الاستخبارات الصينية، كانت تعمل على إعداد ملفات لأشخاص وهميين عبر شبكات التواصل الاجتماعي مثل لينكد إن، لإقامة اتصالات مع - وربما تجنيد - رجال سياسة ومسؤولين ألمان.كما تشعر برلين أيضا بالقلق من قيادة الصين لمجموعة (16+1)، التي تضم 16 بلدا في أوروبا الشرقية وأوروبا الوسطى، 11 منهم أعضاء في الاتحاد الأوروبي. يقول شميدت: "الانطباع آخذ في التزايد بأن الصين تنجح الآن في تقسيم أوروبا. أصبح من الأصعب تنسيق المواقف المشتركة حول أمور مثل حقوق الإنسان".تناولت السيدة ميركل القضية في الشهر الماضي خلال مؤتمر صحافي مع زوران زايف، رئيس وزراء مقدونيا. هل كانت الصين تستخدم مجموعة 16+1 للتأثير على دول البلقان؟ بحسب ما سألها أحد الصحافيين. أجابت بأن: "السؤال هو: هل يجري ربط العلاقات الاقتصادية بالقضايا السياسية؟" إن كان الأمر كذلك، فهو ليس في صالح "روح التجارة الحرة". في نفس السياق، تستريب ألمانيا بشكل كبير من مبادرة الطريق والحزام في الصين، أحد مشاريع تشي الكبرى. كما تشعر بالقلق أيضا من أن البلدان الأوروبية، ربما حتى بلد كبير في الاتحاد الأوروبي مثل إيطاليا، ستخضع للضغوط الصينية بشأن التوقيع على مذكرة تفاهم ثنائية تدعم المشروع الذي يهدف إلى تمويل وبناء البنية التحتية، في نحو 70 بلدا في أورآسيا والشرق الأوسط وإفريقيا.في مؤتمر الأمن المنعقد في ميونيخ الشهر الماضي، حذر سيجمار جابرييل، وزير الخارجية الألماني حينها، والمعروف منذ فترة طويلة بالتشدد إزاء الصين، من أن المبادرة ليست "استحضارا عاطفيا لماركو بولو"، بل هي "محاولة لتأسيس نظام شامل لقولبة العالم على أساس المصالح الصينية".وقال إن الصين هي البلد الوحيد "ذات الأفكار الجيواستراتيجية العالمية بحق". أضاف جابرييل قائلا إن الغرب ليست لديه أي استراتيجية ليقدمها ردا على ذلك. عودة إلى برلين، لا تزال السلطات تعترك مع كيفية تقديم رد على استثمار شركة جيلي في شركة ديملر. يشعر المسؤولون بالغضب من إقصائهم، لكنهم مدركون أنهم يفتقرون إلى الأدوات اللازمة للتدخل. يتحدث بعض أعضاء البرلمان حول تغيير قانون الاستثمارات الأجنبية مرة أخرى: حاليا، يمكن عرقلة الصفقات لو حاولت الشركات غير الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، الاستحواذ على أكثر من 25 في المائة من أي هيئة ألمانية. هذا يترك الحكومة بلا حول ولا قوة من حيث الانخراط في صفقة أخرى مثيرة للجدل: محاولة شبكة الكهرباء الصينية شراء حصة نسبتها 20 في المائة في شركة هيرتز 50، شركة تشغيل شبكة الكهرباء في المانيا.قال ماثياس ماتشينج نائب وزير الاقتصاد: "رأيي هو أن عتبة 25 في المائة ليست فاعلة. يجب تغيير ذلك".في الوقت نفسه، هناك تسليم بالأمر الواقع في بعض الدوائر. النفوذ الصيني في الاقتصاد العالمي آخذ بالتزايد، وتنعدم المناعة في الشركات حتى المعروفة على كل لسان مثل ديملر. يقول مسؤول ألماني: "هناك حجة مشروعة تفيد بأن شركة ديملر ستبقى على قيد الحياة في نهاية المطاف، على أن تصبح أقل ألمانية وصينية أكثر"، أو ألمانية بوجه صيني.تقول السلطات في برلين إنها سوف تتابع عن كثب تحركات شركة جيلي ضمن شركة ديملر: "إذا كان هذا فعلا قرارا من الشركة، فإنه لا بأس في ذلك. أما إذا ما تعلق الأمر بالصين، فلن تعلم الحقيقة أبدا."Image: category: FINANCIAL TIMESAuthor: جاي تشازان من برلينpublication date: السبت, مارس 17, 2018 - 00:58
مشاركة :