لدينا كل الحق في التساؤل ابتداء عما إذا كان الأمر متعلقا بنظرية من النظريات، أم أن التوصيف هنا هو من باب المبالغة، أو لعله من قبيل السخرية كما يُرجح؟ ذلك أن شروط بناء النظرية لا تبدو متوفرة في هذا المقام. ولا بأس أن نذكر بعض الأساسيات: من شروط بناء النظرية الانطلاق من معطيات واضحة، ثم صياغة فرضيات قابلة للاختبار. على أن القابلية للاختبار تعني الاستعداد المسبق لتكذيبها. وبعد ذلك يتم اختبار كل فرضية على حدة، وصولا إلى الاستنتاج الذي هو بمثابة إعادة صياغة نهائية للفرضية التي نجحت في الصمود أمام “قسوة” الاختبار. وأخيرا يجب أن تساعدنا الصياغة النهائية في توسيع مجال الفهم. غير أن هذه الشروط لا تتوفر في ما يسمى بنظرية المؤامرة، والتي تنطلق من معطيات غامضة أو ناقصة أو خاطئة، قبل القفز مباشرة إلى صياغة فرضية وحيدة تكون هي الاستنتاج النهائي. الذي يحدث ضمن ما يسمى بنظرية المؤامرة هو أن التوقعات تأخذ مكان الاستنتاجات بسرعة قياسية ومنذ الوهلة الأولى. وليس هذا كل ما في الأمر، إذ تقوم “نظرية المؤامرة” على اختلالات منطقية مضللة نسرد بعضها على النحو التالي: أولا، عادة ما يتم تقديم غياب الدليل كدليل. فأنت لا تستطيع أن تسأل عن الأدلة على وجود المؤامرة طالما من قواعد المؤامرة حجب الأدلة. وبهذا النحو يصبح انعدام الأدلة مجرد دليل على حبكة المؤامرة. ثانيا، عادة ما يُطرح السؤال “لماذا في هذا الوقت بالذات؟”. وهذا سؤال مضلل ويوحي بأن التوقيت غير بريء. علما بأن هذا السؤال قد يكون بلا معنى طالما أنه قد يطرح عن كل الأشياء وفي كل الأوقات، وبلا استثناء. اليمين المتطرف في أوروبا وكذلك اليسار المتطرف كليهما يروجان لنظرية المؤامرة؛ الأول بخلفية معادية للسامية وللمهاجرين، والثاني بخلفية معادية للرأسمالية والرأسماليين ثالثا، عادة ما يتم إنكار الصدفة. وبلا شك، يبقى الذهن ميالا إلى التشكيك في الصدفة. وهذا مما تستثمره نظرية المؤامرة. بحيث يكفي أن يقال “لا يمكن أن يحدث هذا الأمر وذاك الأمر من باب الصدفة”، حتى تثار مشاعر الريبة. غير أن الصدفة، لكي لا ننسى بعض البداهات، تظل موجودة في كل الأحوال، والحياة نفسها مجرد مصادفات. رابعا، جرت العادة أن يُنظر إلى كل نقد موجه إلى نظرية المؤامرة باعتباره جزءا من المؤامرة نفسها. وهذا ما يضعنا في حلقة مفرغة. فضلا عن الاختلالات العلمية والمنطقية فإننا نرفض نظرية المؤامرة لأنها امتداد للرؤية السحرية للعالم، حين كانت العشائر البدائية تتصور وجود أرواح شريرة تحبك المؤامرات في الخفاء، وتتحكم في الظواهر والأحداث والمصائر والمآلات، سواء منها الظواهر الطبيعية أو الظواهر الاجتماعية. لذلك تظل جذور نظرية المؤامرة كامنة في اللاوعي الجمعي لكافة المجتمعات. لكن، وإن كان هوس المؤامرة يعرف رواجا لدى كافة الشعوب، طبعا بنسب متفاوتة، فبلا شك يظل الشرق الأوسط بمثابة السوق الأكثر رواجا واستهلاكا لبضاعة “نظرية المؤامرة”. لذلك نفهم على سبيل الاستدلال كيف أن الصحافي الفرنسي ثييري ميسان والذي يعد من أبرز رموز “نظرية المؤامرة” في ما يتعلق بالحادي عشر من سبتمبر، لم يجد ملاذه الأخير في آخر المطاف في غير الشرق الأوسط، حيث حصد بادئ الأمر العديد من الجوائز والمنح من بعض المؤسسات الخليجية، ثم صار في الأخير متعاونا إعلاميا مع إيران وحزب الله. يتعلق الأمر بأحد التجار البارعين لـ”نظرية المؤامرة”، والحديث هنا قد يطول. ثم أننا نرفض نظرية المؤامرة باعتبارها مجرد أداة فعالة للتحكم في الشعوب عبر إثارة انفعالاتها السلبية (الخوف، التوجس، الكراهية، الرغبة في الاحتماء). ونعلم كيف استثمر هتلر نظرية المؤامرة (وجود مؤامرة يهودية) لأجل التحكم في رقاب الشعب الألماني، كما يروج لها رجب طيب أردوغان اليوم لأجل إحكام سيطرته على الشعب التركي، وربما على أجزاء واسعة من الشرق الأوسط. كما أن اليمين المتطرف في أوروبا وكذلك اليسار المتطرف كليهما يروجان لنظرية المؤامرة؛ الأول بخلفية معادية للسامية وللمهاجرين، والثاني بخلفية معادية للرأسمالية والرأسماليين. بل لا ننسى كيف برع الإسلام السياسي عندنا في تسويق فكرة وجود مؤامرة صهيونية ماسونية صليبية ضد الإسلام والمسلمين، بنحو ساعده على التغول، وإحكام سيطرته على وجدان المسلمين، والذين صار حالهم في الأخير كحال من “يحسبون كل صيحة عليهم” كما جاء في الذكر الحكيم. أخيرا، إن كانت هناك من مؤامرة فإنها “نظرية مؤامرة” بالذات. وهذا كل ما في الأمر.
مشاركة :