القاهرة - يشهد "مهرجان وسط البلد للفنون المعاصرة – دي كاف" بالقاهرة نجاحا جماهيرا كبيرا، وفي اللحظة التي استطاع فيها أن يكسر احتكار المؤسسة الرسمية للثقافة بعروضه المتنوّعة من مختلف أرجاء العالم، فإنه يتعرض للتضييق والمحاصرة من جانب السلطة. وجاء مقص الرقابة ليجدّد أحزان المسرح المصري بعد قرار حذف خمسة مشاهد كاملة من العرض المسرحي “قبل الثورة”، الأمر الذي دفع مؤلف ومخرج العرض أحمد العطار، مدير مهرجان وسط البلد، إلى إلغاء العرض يومي 18 و19 مارس الجاري، احتجاجا على هذا الحذف، ورفضا لتشويه المسرحية وتفريغها من مضمونها الفني والأدبي. يبدو أن مسلسل السيطرة المؤسسية على المنتج الثقافي والإبداعي بمصر لن تنتهي حلقاته، تحت مسمى “ضوابط حرية الرأي والإبداع”، فبعد محاصرة مسرحية “سليمان خاطر” والفيلم التسجيلي “سالب 1095” وديوان “خير نسوان الأرض” للشاعر جلال البحيري، وتعقّب صنّاع هذه الأعمال أمنيا وإعلاميا، امتدت يد التدخلات الرقابية إلى مشاهد من مسرحية “قبل الثورة” التي كان مُقرّرا عرضها على مسرح “روابط” ضمن فعاليات “مهرجان وسط البلد للفنون المعاصرة – دي كاف” المنعقد في القاهرة بين 8 و29 مارس الجاري جمود مجتمعي أعربت “فرقة المعبد المسرحية” في بيان مساء الأحد (18 مارس) عن أسفها لإلغاء العرض بعد قرار الرقابة الصادم، وذكر أحمد العطار أن حذف هذه المشاهد من شأنه التأثير بالسلب على البناء الدرامي والعمل الفني ككل. وفضل العطار عدم تقديم العرض بهذه الصورة المبتورة، مطالبا بتكوين لجنة مشاهدة أخرى، أملا في تغيير موقف الرقابة على المصنفات الفنية من المسرحية والسماح بعرضها في وقت لاحق قبل نهاية المهرجان. ويبدو أن الحالة الواقعية التي يعالجها عرض “قبل الثورة”، هي ذاتها التي سقط العرض أسيرا في شراكها، على الرغم من مرور الأمر بسلام عندما عُرضت المسرحية خارج مصر في أكتوبر الماضي للمرة الأولى في فرنسا وبلجيكا وسويسرا ضمن مهرجانات مختلفة. ويعود عرض “قبل الثورة” بالجمهور إلى لحظات ما قبل 25 يناير 2011 التي اجتمعت فيها العاطفة والعقل، وهي لحظات عكست حالة الجمود التي أصابت المجتمع قبل اشتعال فتيل الغضب الذي أفرز حاضرا ومستقبلا مختلفين، وفق مؤلف العرض. أما اللحظة الراهنة، التي تعرّضت فيها المسرحية للقرار الرقابي بالحذف، فربما تسترجع ذلك الجمود المجتمعي الذي يشير إليه العطار، وهو ما يعيد طرح السؤال من جديد، هل كانت الثورة المصرية مجرد رغبة في تغيير نظام سياسي، أم كانت تعبيرا عن تراكم سنوات من الظلم والخداع وعدم الأمان والعنف وانعدام الكفاءة والإحباط؟ هذا التساؤل المحوري طرحه العرض فوق خشبة المسرح، بأداء رمزي لينير وناندا محمد وموسيقى حسن خان وديكور وأزياء حسين بيضون وإضاءة تشارلي أستروم، وهو ذاته التساؤل الذي يثيره على أرض الواقع قرار الرقابة على المصنفات إزاء المسرحية، مع تساؤل آخر هو إلى أي اتجاه تمضي حركة المجتمع؟ ويهدف العرض على نحو تجريبي إلى أن يذهب بالجمهور إلى حالة بديلة، يحاول فيها أن يفهم بشكل أفضل الأسباب التي أدت إلى الثورة وفهمها، وآثارها ومستقبلها. ويأتي قرار الرقابة بحذف مشاهد من المسرحية ليذهب بصنّاع العمل إلى الشتات، كما يذهب بجمهور المسرح بصفة عامة إلى ارتباك كامل. وقال أحمد العطار قبل ساعات من الموعد المحدد لرفع الستار “أتطلع بشدّة إلى عرض المسرحية في مصر، لأنها في الأساس تخاطب الجمهور المصري الذي يعدّ أول متلق لي وبعده العربي ثم العالمي، أنتظر بفارغ الصبر ردّ فعل الجمهور المصري نحو العرض”، لكن أحلام الفنان تأجلت بيد الجهاز الرقابي. وتأسّست “فرقة المعبد المسرحية” المستقلة في عام 1993، واكتسبت تميّزها على الصعيد العالمي من خلال تقديمها لمسرح مصري معاصر في الشكل والمضمون. وأحمد العطار، هو مخرج وكاتب مسرحي ومدير مهرجان وسط البلد للفنون المعاصرة، وقدّم أعماله المسرحية في أكثر من عشرين دولة حول العالم. وتنبني فلسفة مهرجان وسط البلد على تنمية الفنون المعاصرة والمستجدّة والبديلة، لتأخذ مكانها الطبيعي جنبا إلى جنب مع الفنون السائدة، ويتّسع الاهتمام الشعبي بألوان الجمال المتعدّدة خارج حدود النخب الضيقة. ويعنى المهرجان السنوي بالعروض الأدائية والمسرحية والبصرية والموسيقية والسينمائية والديجيتال، وغيرها من الفنون. أحمد العطار: نرفض تشويه المسرحية وتفريغها من مضمونها الفني والأدبي الرقابة مرة أخرى تتجه المؤسسة الرسمية في مصر نحو توسيع سلطاتها الرقابية على المصنفات الفنية والأدبية، بالإضافة إلى التحركات الأمنية والقضائية والملاحقة الإعلامية للأعمال التي تتجاوز الخطوط الحمراء، وتتخذ وزارة الثقافة المصرية وهيئاتها إجراءات مختلفة لملاحقة الأعمال المغضوب عليها. ودافعت وزيرة الثقافة إيناس عبدالدايم عن قرار وقف عرض مسرحية “سليمان خاطر” منذ أيام قليلة بحجة عدم حصولها على تصريح رقابي، كما أحالت إلى التحقيق ديوان “خير نسوان الأرض” لجلال البحيري بعدما أثار انتقادات واسعة. وشهد مارس الجاري إصدار وزيرة الثقافة المصرية إيناس عبدالدايم قرارا بإنشاء مقرات للرقابة على المصنفات في سبع محافظات مصرية، ونفى خالد عبدالجليل، رئيس الرقابة على المصنفات الفنية، أن يكـون هذا القرار حاملا في طياته حصارا للحريات أو تشديدا لسلطة الرقابة على الفنون والإبداعات كافة. وفي الوقت الذي تدور فيه أحاديث وزيرة الثقافة، ورئيس الرقابة، عن أجواء الحرية التي تنعم بها الآداب والفنون، فإن التضييق يلاحق الكثير من الأعمال. وتبدو المؤسسة الرسمية كما لو كانت مناهضة للفعاليات الأهلية والخاصة، على الرغم من أن وزارة الثقافة تدعم ماليّا بعض هذه الفعاليات، وهو تناقض تتجاوز غرابته الخيال.
مشاركة :