تمر الأيام تعقبها الشهور تتلوها السنون والأعوام حتى يبلغ الواحد منا الأربعين، الخمسين، الستين... ويلتفت إلى كل هذه المراحل العمرية التي قطعها فلا يجدها إلا كلمح البصر، مرت سريعاً بأحداثها وشخوصها، بأنسها وأكدارها، يحاول أن يجمع ذكرياتها ليرويها مشافهة أو كتابة للجيل، هذا على افتراض أن ذاكرته أسعفته، وأن الأولاد والأحفاد- فضلاً عن غيرهم- منحوه شيئاً من وقتهم الثمين ليعيدوا معه تقليب صفحات ماضيه المفرح والمترح، السعيد والحزين. نعم، التاريخ لا يعود مرتين، ولكن تجارب الحياة ومواقف الرجال فيها من الدروس والعبر ما يجعل السامع لها والقارئ في سفرها يقوى عوده ويستقيم فكره وينضج رأيه قبل غيره من أترابه، ولذلك القراءة في كتب السير الذاتية تعطيك في مشوار العمر فهماً للحياة أعمق، وتمنحك قدرة على التخطيط والاختيار بين البدائل أقوى، فضلاً عن أن مدرسة الحياة تفوق المدرسة الأكاديمية النظامية - في نظري - أثراً وتأثيرا، ولذلك فإن أصحاب التجارب ومن عركتهم الحياة أقوى حجة وأصدق بياناً وأجدى نفعاً ممن يكتبون في إطار تنظيري صرف، والأقوى من هؤلاء جميعاً من جمع في كتاباته ومحاضراته ولقاءاته بين المدرستين، فكانت أفكاره التي يطرحها ليست تنظيرية بحتة، ولا هي تجريبية محضة، وإنما خليط بين هذا وذاك، ولذلك في نظري أن الكتابة للتاريخ تحتاج إلى بلوغ عمر يشعر معه المؤلف أن الفكرة التي يريد أن تلتصق باسمه قد نضجت واكتمل نموها، والعنوان الذي يرغب أن يعرف به ويميز قد استقام مبنىً ومعنىً، وإلا سيندم يوماً ما أن هذا المولود الخداج ينتسب له. إن ما يمدح من الكتابات ويكون له الأثر الذي يتجاوز مجرد امتلاك الكتاب أو الاستمتاع بالقراءة ليصل إلى عمق النفس البشرية ويولد لديها القناعات الحياتية ويغير من أسلوبها في التعامل مع الأشخاص والأفكار والممتلكات هو ما يستحق صاحبه أن يقال عنه إنه مؤلف بحق، وعمله علم نافع مفيد، أما الغثاء- وما أكثره- فسيذهب جفاء ولن يجدي نفعا، وهذا - أعني الكتاب الذي ننشده ونتطلع إلى اقتنائه - لا يتأتى ولا يمكن أن يبدع في نسج كلماته وإبداع عباراته إلا من عايش وعاش الأحداث، وذاق حلوها ومرها على حد سواء، وكان صادقاً فيما يكتب ويقول، فالحروف والكلمات التي تولد من رحم المعاناة والمعايشة هي ما تنفذ إلى الأعماق وتؤثر في الوجدان أكثر من غيرها. طبعاً هذه قناعتي الشخصية، ولذلك وأنا أكتب عن كتب السير الذاتية وأثرها المنتظر في بناء الشخصية أستحث همم خريجي مدرسة الحياة والباحثين المختصين إلى سبر الواقع وكتابة سير الرجال والنساء، ففي طياتها الدروس والعبر. أعود إلى الفكرة الأساسية التي أردت أن أعرج عليها في هذا المقال ونحن نشهد هذه الأيام معرض الكتاب الدولي في الرياض الذي يرعاه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وتنظمه وزارة الثقافة والإعلام مشكورة لأؤكد أهمية اقتناء الكتب التي كتبها أصحابها في إطار السير الذاتية، خاصة لمن هم قادة في الفكر أو الإدارة أو الاقتصاد أو الساسة أو... فهي في نظري ذات أثر أعمق في البناء التكويني للإنسان، خاصة لمن هم بمرحلة الشباب وفِي كل خير. دمتم بأنس مع خير جليس، وتقبلوا صادق الود والسلام.
مشاركة :