دور المؤسسات الدينية الرسمية في تكريس الاستبداد السياسي 1| مصر والسعودية أنموذجاً

  • 3/20/2018
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

لا شكَّ أن أي نظام مستبد لا بدَّ له من قوة عسكرية تحميه، ومن غطاء ديني يُضفي عليه صبغة شرعية لتكريس نظام حكمه، ولشرعنة القهر والاستبداد الذي يمارسه؛ كي يحافظ على كرسيّ الملك. إن العلاقة القائمة بين العلماء والسلاطين في الأساس هي علاقة مقارعة وشدّ وجذب، لكنها في ظل مناخ الاستبداد والقهر تحولت إلى علاقة تماهٍ وتبعية علاقة قائمة على المصالح المتبادلة، وهي أيضاً علاقة قائمة على أن كل طرف يستمد مشروعيته من الطرف الآخر، فالسلاطين استغلوا الدين والعلماء كأداة للصراع السياسي في مواجهة الخصوم. وبذلك فقد الشباب ثقتهم في العلماء، ووصل البعض إلى حد تكفيرهم جراء مواقفهم السياسية المنحازة طرف الدولة فاتجهوا إلى الإنترنت باحثين عن ضالتهم، فالعلماء إما مدجَّنون وإما في أقبية السجون. فعدم استقلالية العالم وكونه موظفاً رسمياً في الدولة جعلته قطعة شطرنج في يد الحاكم، وأصبح يسير في فلك الحاكم وليس العكس، فأصبحت فتاواه مجرد مواقف سياسية أقرب منها لفتاوى شرعية. والتاريخ يذكر لنا أن رجال السلطة لم يجدوا أفضل من رجال الدين المرتزقة للقيام بهذا الدور الخبيث، فهؤلاء المرتزقة الذين باعوا دين الله مقابل منصب زائل أو حفنة دولارات، فهذه الطائفة يصدق فيها قول الله تعالى: (يُحرّفون الكَلِمَ عن مواضعه)، وهم مَن يلوون أعناق النصوص لتبرير أفعال المستبدين من الحكام. يقول الشيخ محمد رشيد رضا، رحمه الله: "يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عُلَمَاءُ الدِّينِ مُسْتَقِلِّينَ تَمَامَ الِاسْتِقْلَالِ دُونَ الْحُكَّامِ - لَا سِيَّمَا الْمُسْتَبِدِّينَ مِنْهُمْ - إِنَّ عُلَمَاءَ السَّلَفِ كَانُوا يَهْرُبُونَ مِنْ قُرْبِ الْأُمَرَاءِ الْمُسْتَبِدِّينَ أَشَدَّ مِمَّا يَهْرُبُونَ مِنَ الْحَيَّاتِ، وَالْعَقَارِبِ". ويقول أيضاً في تفسيره المنار في قوله تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون) [آل عمران: 187 - 188]. واعلم أنه لا مفسدة أضرّ على الدين، وأبعث على إضاعة الكتاب ونبذه وراء الظهر، واشتراء ثمن قليل به من جعل أرزاق العلماء ورتبهم في أيدي الأمراء والحكام، فيجب أن يكون علماء الدين مستقلين تمام الاستقلال دون الحكام، لا سيما المستبدين منهم، وإنني لا أعقل معنى لجعل الرتب العلمية ومعايش العلماء في أيدي السلاطين والأمراء إلا جعل هذه السلاسل الذهبية أغلالاً في أعناقهم يقودونهم بها إلى حيث شاءوا من غش العامة باسم الدين، وجعلها مستعبدة لهؤلاء المستبدين، ولو عقلت العامة لما وثقت بقول ولا فتوى من عالم رسمي مطوق بتلك السلاسل. [1] إن علماء السلف كانوا أشد، ورووا في ذلك أخباراً وآثاراً كثيرة منها قوله صلى الله عليه وسلم: "سيكون بعدي أمراء - زاد في رواية يكذبون ويظلمون - فمن دخل عليهم فصدقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم فليس منّي ولست منه، وليس بوارد عليَّ الحوض"، الحديث رواه الترمذي وصححه النسائي. فذكر لنا التاريخ أمثلة متنوعة من العلماء الذين واجهوا السلاطين، مثل: ابن تيمية والعز بن عبد السلام، وعندما وقف الإمام أحمد في مواجهة الخليفة المعتصم ليسأله الأخير عن رأيه في مسألة خلق القرآن، كان يمكنه أن يؤثِر السلامة ويقول: إن القرآن مخلوق، ويبرر لنفسه فعلته هذه بأنه مُكره، لكنه قرر أن يواجه الدولة مهما كان الثمن. قال ابن مفلح: (كَانَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَأْتِي الْخُلَفَاءَ وَلَا الْوُلَاةَ وَالْأُمَرَاءَ وَيَمْتَنِعُ مِنْ الْكِتَابَةِ إلَيْهِمْ، وَيَنْهَى أَصْحَابَهُ عَنْ ذَلِكَ مُطْلَقاً. [2] وهل أفسد الدين إلا الملوك *** وأحبار سوء ورهبانها وما كانت الحروب الصليبية التي شنتها أوروبا على المسلمين تتم إلا بغطاء دين، فكانوا يرون أنها تطبيق لإرادة الرب، وأنها طاعة للرب واستجابة لندائه. وكانت الحرب الصليبية الأولى عام 1096 م بقيادة بطرس الناسك بتحريض من رجال الدين لاحتلال بيت المقدس. لقد كشفت الأزمات والمِحَن التي تمر بها الأمة على مدار التاريخ، كشفت القناع عن هذه المؤسسات، فحرب الخليج الثانية التي استدعت فيها السعودية القوات الأجنبية، وحرب أفغانستان الأولى والثانية وعمليات المقاومة في فلسطين وأخيراً وليس آخراً حصار قطر، هذه المحن كشفت حقيقة الدور الذي تقوم به هذه المؤسسات والإطار الذي تعمل فيه. فسوغت البيانات الدينية حصار قطر (شرعاً) بذرائع عدة، فمفتي السعودية وصّف الحصار بأنه "أمور إجرائية فيها مصلحة للمسلمين ومنفعة لمستقبل القطريين أنفسهم"، وهي "مبنية على الحكمة والبصيرة وفيها فائدة للجميع". ورابطة العالم الإسلامي رأت أن قرار الحصار "يهدف إلى إيجاد الضمانات اللازمة لحفظ أمنها واستقرارها ودحر عاديات الشر عنها". وهي توصيفات سياسية تشكل ذرائع هشة ووصائية لبيانات يُفتَرض بها أنها تصرح بحكم شرعيّ! وهي تستعمل المنافع والمفاسد بشكل غامض ومبهم لا صلة له بطرائق الفقهاء وعملهم، وبناءً على "حسن الظن" بالحكام والدول صاحبة القرار من دون الاستناد إلى معطيات علمية أو واقعية! تكشف هذه البيانات عن غياب فاجع للمسألة الأخلاقية عن خطاب مؤسسات يُفتَرض بها أن تبلّغ رسالات الله التي هي ذات مضمون أخلاقي وديني أصالةً، ولكنها تخلّت عن كل ذلك لِلَّعب بالدين في صراعات دول على مواطن النفوذ ومصالح الأنظمة، أي أن الدين تَحَوّل في خطاب المؤسسات الرسمية وشبهها إلى مجرد أداة في الصراع السياسي، وتوقف عن أن يكون خطاباً جامعاً يتعالى على السياسي والوطني الضيق، وقد ترك مشايخ الأنظمة وظيفتهم التاريخية في الوساطة بين الشعب والحكام؛ ليلتحقوا بركب الحكام ضد الشعوب على طول الخط. [3] يقول صاحب الظلال: .. إن آفة رجال الدين، حين يصبح الدين حرفة وصناعة لا عقيدة حارة دافعة لتبرير أغراض وأهواء لمن يملكون المال أو السلطان! كما كان يفعل أحبار يهود. [4] ولو تتبعنا الخط التاريخي لتلك المؤسسات لوجدنا ما يلي: أولاً: مصر أولاً: دور الأزهر تاريخ فتاوى "شيوخ السلطان" و"قساوسة السلطة"، بمصر بدأ مع الحياة السياسية بمصر في منتصف الستينات من القرن الماضي حينما قرر فجأة الشيخ محمود شلتوت، الإمام الأكبر للجامع الأزهر وقتها، الدخول لعالم السياسة بفتواه بأن الصلح مع الكيان الإسرائيلي حرام شرعاً، متوافقاً وقتها مع نزعة إلقاء إسرائيل في البحر تحت قيادة الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، قبل أن يعود نفس الشيخ في عهد السادات ويُفتي بأن الصُّلح مع الكيان الإسرائيلي حلال، وأيّد مع البابا شنودة وقتها اتفاقية كامب ديفيد! للأزهر مواقف مشرفة لا تنسى، لكن منذ أن تم تدجينه واحتواؤه من قِبل أهل السلطة واستُخدم كأداة للتوظيف السياسي انحرف عن مساره وعن رسالته، فقد كان الذراع اليسرى للسلطة التي تستخدمها كقوة ناعمة لتمرير القوانين والقرارات التي تراها. [5] حين جاءت حركة الضباط الأحرار في 23 يوليو/تموز 1952، كان الأزهر أول المؤيدين لهذه التحركات؛ حيث كتب مقالاً في مجلة "صوت الأزهر" يومها، وصف فيه ما حدث بأنه "انقلاب عظيم كرم الله الإنسانية به وأذهب النظام الجاهلي، وموالية أنصار الملك والديكتاتورية"، وذلك على أثر قرار الملك تخفيض المخصصات المالية؛ حيث رَفَض طلب الملك عدمَ اشتغال علماء الأزهر بالسياسة. في عام 1961م، صدر قانون إصلاح الأزهر؛ حيث نص على بطلان قانون عام 1936م الذي كان ينص على استقلال الأزهر، وأصبح لرئيس الدولة المصرية تعيين شيخ الأزهر، وقد كان ذلك سابقة من نوعها لم تعرف في تاريخ الدولة المصرية، ومنذ إنشاء (مجمع البحوث) صار شيخ الأزهر يُعيَّن قانوناً بقرار مِن رئيس الدولة وباختياره، وهو ما فتَح الباب لتدخُّل السلطة. وبقي الأزهر مؤثراً على المجتمع المدني، لكنه انفصل عن الدولة، ولم يعد له أي دور في التأثير على الدولة المصرية ولا سياساتها، وأصبح شيخ الأزهر يُعيَّن قانوناً بقرار مِن رئيس الدولة وباختياره، وهو ما فتَح الباب لتدخُّل السلطة في اختيار شيْخ الأزهر، ونتيجة لذلك تقلص دور شيخ الأزهر الفعال في القضايا الاجتماعية وقضايا النوازل السياسية، ومنذ ذلك الوقت تقريباً أصبحت كل مواقف الأزهر تابعة للمواقف السياسية للدولة إلا في حالات نادرة. في العقد الخامس من القرن الماضي أفتى شيخ الأزهر عبد الرحمن تاج في عهد عبد الناصر بأن "الإخوان" خوارج ... (يتبع). ــــــــــــــــــــــــــــــ [1] تفسير المنار، سورة آل عمران. [2] الآداب الشرعية (3/458). [3] [4] في ظلال القرآن [1 / 68 ] [5] ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست عربي لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

مشاركة :