تناولت صحيفة “نيويورك تايمز” ضمن تحقيق موسع لها تفاصيل حول ما بات يعرف باتفاق المدن الأربع (كفريا – الفوعة – الزبداني – مضايا)، والذي كان الحلقة الأولى في عملية تفريغ ريف دمشق وتغيير الخارطة الديموجرافية لها. (روبرت وورث) الصحفي في “نيويورك تايمز” التقى أحد الأمراء القطريين المطلق سراحهم والذي كشف له تفاصيل العملية من لحظة وصول الأمراء ضمن رحلة الصيد إلى الأراضي العراقية إلى حين إطلاق سراحهم وعودتهم من مطار بغداد. في 15 نيسان/أبريل من العام الماضي، وصلت مجموعة من الرجال القطريين إلى صالة الاستقبال V.I.P. من على متن رحلة جوية مسائية قادمة من عاصمة البلاد، الدوحة إلى بغداد. تقدم أحد الأشخاص، والذي عرف عن نفسه على أنه مبعوث حكومي رفيع المستوى، حيث أخبر مسؤولي المطار، أنه هو وزملاؤه الأربعة عشر، لا يريدون تفتيش أمتعتهم. القطريون جلبوا معهم 23 كيسا أسود، الأكياس كانت كلها متطابقة سوداء، حيث شكلت جزيرة من النايلون لدرجة أنها غطت جزءاً كبيراً من الأرضية الخشبية للصالة. كما كانت كبيرة، لدرجة أن الحمالين اضطروا إلى دحرجتها على الأرض حيث وصل وزن كل كيس إلى 45 كجم. أصر العراقيون، بأدب، على ضرورة فحص جميع الحقائب، الأمر الذي صدم قائد الفريق القطري. تجمع القطريون لإجراء مناقشة هادئة ثم قاموا بعدد من المكالمات الهاتفية وفي نهاية المطاف، سمحوا بفحص الأكياس بدون فتحها. كان كل كيس يحتوي على أكوام من مربعات من الطوب، ملفوفة بشريط أسود لم يستطيع الماسح الضوئي اختراقها. الأمر الذي اضطر مسؤولي الجمارك للسؤال عن محتوى هذه الأكياس، القطريون رفضوا طبعا البوح بالمحتوى. يصف (وورث) ما حدث بالمواجهة التي استمرت طوال الليل، في النهاية، استسلم القطريون الغاضبون واتجهوا إلى بغداد من دون أمتعتهم. في وقت لاحق، فتح العراقيون الأكياس ليكتشفوا أنها تحتوي مزيجا من الدولارات واليورو، بلغ نحو 360 مليون دولار. بعد نحو أسبوع، عاد القطريون على متن نفس الطائرة التي أتت بهم إلى العراق، بصحبتهم مجموعة جديدة من القطريين تضم أفراداً من عائلة آل ثاني الحاكمة، الذين كانوا مختطفين خلال رحلة صيد في جنوب العراق قبل 16 شهراً. بعد أن تركوا الأموال المحتجزة في المطار. تجاوزت تكلفة الإفراج 360 مليون دولار، لكن في نهاية المطاف يقول (وورث) إن النقد كان أقل أهمية من البعد السياسي للاتفاقية. التي شاركت بها طهران لاقتلاع سكان المدن الأربع، صفقة كانت ضربة لإدارة (ترامب) التي تسعى لتقليل النفوذ الإيراني وضربة أيضا، لآلاف السوريين الذين يتضورون جوعاً، لأن الاتفاق يعني طردهم إلى المنفى بظروف غامضة. في أواخر تشرين الثاني/نوفمبر 2015، غادرت مجموعة كبيرة من الصيادين القطريين الدوحة في طابور من سيارات الدفع رباعي متجهة إلى الجنوب. حيث عبرت الحدود السعودية وجزءاً من الكويت لتصل إلى وجهتها، وهي الصحراء الجنوبية للعراق، على بعد 450 ميلاً من الدوحة. وتألفت المجموعة من عشرات الأشخاص، بما في ذلك الخدم، وأعضاء من الأسرة الحاكمة في قطر، آل ثاني، واحدة من أغنى السلالات على وجه الأرض، بحسب (وورث). ومع سيطرة تنظيم داعش على الجزء الأكبر من الشمال والميليشيات الشيعية غير المنضبطة المنتشرة في أماكن أخرى، لم يكن العراق مقصداً سياحياً مرغوبا فيه. لكن امتداد الأرض، الذي كان يخلو من الناس تقريباً، أصبح ملاذاً موسمياً لطير الحبارى. وعلى الرغم من احتمال التعرض للخطر، إلا أن القطريين لم يستطيعوا مقاومة فرصة الصيد هذه. وبالفعل فخلال الأسابيع الثلاثة القادمة، كان الصيادون يتجولون في الصحراء مع حراسهم العراقيين المستأجرين، وكانوا يهبون أحياناً هدايا باهظة للبدو لضمان سلامتهم. وبحلول 15 كانون الأول/ديسمبر، وبينما كانوا على وشك العودة إلى ديارهم تم اختطافهم من قبل مجموعة من الرجال الذين يرتدون زياً عسكرياً وبصحبتهم عشرات السيارات الدفع الرباعي مع عربات تحوي رشاشات ثقيلة. في البداية، اعتقدوا أنه هناك خلط، أو ربما زيارة الجيش العراقي لتحذيرهم من بعض المخاطر. لكن في غضون دقائق قليلة، دخل رجال يرتدون أقنعة سوداء ومسلحون إلى خيمة (أبو محمد) – شخصية من المختطفين اشترطت عدم الكشف عن اسمها للتحدث للصحفي – وبدأ واحد منهم بقراءة قائمة من الأسماء. بدا أنه يبحث عن أكبر عضو في أسرة آل ثاني. حالما وصلت القافلة إلى طريق مرصوف، تم أخذ الأسرى خارج سيارات الدفع الرباعي والزج بهم ضمن شاحنات “فان” حيث ألقي بالقطريين على الأرض، وبدأ بعدها أحد الخاطفين بتوجيه شتائم للسيدة (عائشة) زوجة النبي (محمد)، حينها أدرك (أبو محمد) وزملاؤه أنهم رهائن في أيدي ميليشيات شيعية، وليس داعش أو أي جماعة جهادية أخرى. بعد ثلاث أو أربع ساعات من القيادة، توقفت الشاحنات قرب مكان يمكن من خلاله سماع أصوات الطائرات تقلع وتهبط بالإضافة إلى أصوات الجنود. وبالإضافة إلى الأوامر العسكرية والتحية، فقد سمعوا أصواتاً تنادي “يا حسين!”. لم يتمكن الأسرى من تحديد موقعهم، إلا أنهم كانوا على الأرجح بالقرب من قاعدة ” طليل” الجوية بالقرب من الناصرية، وهي واحدة من أكبر المنشآت العسكرية في جنوب العراق. حيث يعمل الجيش العراقي – المدرب والمدعوم من قبل الولايات المتحدة – حرفياً جنباً إلى جنب مع المليشيات الشيعية المدعومة من إيران. بعد أيام من اختطاف الصيادين، أصبحت الحكومة القطرية شبه متأكدة أن العائلة المالكة تحتجزها ميليشيا شيعية لها علاقات مع إيران. وهذا يضع مصيرهم بفعالية في يد رجل ربما، وبحسب الصحفي، يكون الضابط العسكري الأقوى في الشرق الأوسط: جنرال إيراني يدعى (قاسم سليماني). قبل أن يتم احتجاز الرهائن القطريين، بدأت إيران بالمضي قدما بجهود لإحداث تغيير ديموجرافي في سوريا. يورد (وورث) عقد اجتماع سري في إسطنبول بتيسير من الأمم المتحدة في أيلول/سبتمبر 2015، حيث اقترح مبعوث من فيلق القدس التابع (لسليماني) اتفاقاً أصبح يعرف باسم “المدن الأربعة”. ومن خلالها ينتهي حزب الله من حصار اثنين من معاقل الثوار السنة بالقرب من الحدود اللبنانية في مضايا والزبداني، والتي كان سكانها يشكلون تهديداً مستمراً لنظام (الأسد) في دمشق. في المقابل، ينهي الثوار الممولين من قبل قطر حصارهم لبلدتين شيعيتين في الشمال الغربي، كفريا والفوعة. ويضيف (وورث) أن صفقة “المدن الأربع” كانت ستحقق هدفين لإيران: التخلص من تهديد الثوار في منطقة إستراتيجية، في الوقت الذي يتم فيه إنقاذ الشيعة المعرضين للخطر في الشمال، والذين يشكلون امتداداً لقاعدة حزب الله الشيعية في لبنان. كانت تفاصيل الصفقة غامضة في البداية، لكن في وقت ما، اقترح الإيرانيون أن يتمكن السكان من مبادلة المدن، حيث يتداول السوريون السنة والشيعة حرفياً أماكن الإقامة، وربما يسكنون في منازل بعضهم البعض. قدموا الصفقة تحت شعار إنساني، إنهاء الحصار سيفيد الناس في جميع المدن الأربع. إلا أن المفاوض باسم الثوار في إسطنبول رفض الفكرة بشكل غاضب، ووصفها بأنها محاولة لإعادة تشكيل خليط سوريا الطبيعي من ديانات ومجموعات عرقية متنوعة على حساب أبعاد طائفية بدائية. وبحسب (وورث) فإنه ومع الصيادين القطريين المختطفين، اكتسبت إيران بعض النفوذ القوي على الثوار. خطة إخلاء المدن الأربع والتي تُركت ميتة بعد المحادثات في إسطنبول، عادت مجدداً إلى الطاولة. مساعي من قطر وحزب الله تدخل حزب الله، كوسيط للإيرانيين، على أساس ارتباطه مع جميع الأطراف المعنية، طهران والدوحة والميليشيا الشيعية التي احتجزت الرهائن في العراق. كما سمح العمل من خلال حزب الله لإيران بالحفاظ على بعض السيطرة على مفاوضات الفدية، والتي ربما كانت قد انتهت بخلاف ذلك بدفع نقدي سريع للخاطفين العراقيين. وبدلاً من ذلك، أرسل حزب الله مبعوثاً رفيع المستوى إلى الدوحة وجعل الشروط واضحة جداً: سيتم إطلاق سراح الأسرى مقابل مساعدة قطر في التوصل إلى صفقة المدن الأربعة. وبحسب (وورث) كان القطريون أقل اهتماما بالآثار الكبيرة للصفقة بقدر اهتمامهم الكبير برفاهية العائلة المالكة، حيث وافقوا بسهولة على استضافة سلسلة طويلة من المحادثات تضم مختلف الأطراف في صفقة المدن الأربعة: حزب الله، والإيرانيون والأطراف الثورية مع غياب تام للطرف السوري التابع للنظام. تمحورت الكثير من المفاوضات حول الخدمات اللوجستية. لأن نقل المدنيين في منطقة حرب سريعة التحول ليس بالأمر السهل، وكان هناك العديد من الاختلافات التي ينبغي التوصل إليها. كما عارضت بعض الأطراف الثورية بشدة فكرة نقل السكان. في النهاية، تم التخلي عن خطة تبادل سكان البلدات الشيعية والسنية الأربع باعتبارها طموحة للغاية. بدلاً من ذلك، تم التوصل حل وسط عبر نقلهم إلى مناطق آمنة، مع دراسة مستقبل كل مدينة على حدة. بعد مرور عدة أشهر، لم يتم التوصل لأي جدول زمني لتحرير الرهائن. كان القطريون يائسون وتساءلوا عما إذا كان الإيرانيون سيطلقون سراح الرهائن أساساً. بدؤوا باستكشاف طرق أخرى، عبر دفع مبالغ نقدية ضخمة. قال أحد المسؤولين القطريين الذين تحدثوا لـ (وورث) “أتذكر أن رجلاً إيرانياً قال: يمكنني إخراجهم مقابل 20 مليون دولار”. بينما دفع أحد أفراد العائلة الحاكمة القطرية 2 مليون دولار لشركة تسمى المجلس الاستراتيجي العالمي، يديرها بائع أحذية يوناني. بدون أي فائدة. شعر القطريون بالإحباط الشديد، كما أخبر (وورث) أحد الدبلوماسيين السابقين في الدوحة، أن القطريين فكروا بحل جذري للغاية، غارة عسكرية لتحرير الأسرى. إلا أنه ومن شبه المؤكد أن قطر كانت تفتقر إلى الدراية اللازمة لتنفيذها. ويشير (وورث) أنه طرح حلولا من هذا النوع يشير إلى الضغوط الهائلة التي تعرض لها الأمير القطري من السكان القبليين لإحضار الرهائن إلى أوطانهم. في أوائل نيسان/أبريل 2017، وخلال الاجتماع السنوي لوزراء الداخلية العرب، الذي عُقد في تونس في ذلك العام. التقى الوزير القطري بنظيره العراقي، (قاسم الأعرجي)، وهو رجل له علاقات عميقة مع الميليشيات الشيعية. أمضى (الأعرجي)، سنوات عديدة في المنفى في إيران وسُجن مرتين من قبل القوات الأمريكية في العراق قبل عقد من الزمن للاشتباه في قيامه بتهريب وتوزيع أسلحة لاستخدامها في مهاجمة القوات الأمريكية وتم الإفراج عنه لعدم كفاية الأدلة. قال (الأعرجي) إنه يعرف من احتجز الرهائن، رغم أنه لم يذكر اسم المجموعة. إلا أنه تبين، أنهم كتائب حزب الله، فصيل شيعي عراقي، شن مئات الهجمات على الجنود الأمريكيين وتم تدريبه وتمويله وإشرافه من قبل فيلق القدس الإيراني. كما أخبر نظيره القطري أنه لديه خطة لتحرير الرهائن، وفقا لمسؤول قطري رفيع المستوى روى المحادثة مع (وورث). لكن الخطة جاءت بشرط غير عادي. أراد (الأعرجي) سلطة التوسط شخصياً في عملية إطلاق السراح، وألمح إلى نظيره القطري بالبقاء على سرية المحادثة وعدم أخبار أي شخص آخر في الحكومة العراقية. الأموال بالطبع، كانت نوعاً من أنواع التحلية التي تضاف إلى صفقة التبادل السكاني في سوريا. بعد أسبوع، وصل فريق التفاوض القطري إلى بغداد حاملاً 23 حقيبته. إلا أنهم سرعان ما اكتشفوا أن (الأعرجي) قد فقد سيطرته على المطار والحكومة العراقية، حيث اكتشف رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي مخطط القطريين، الأمر الذي أثار غضبه وقرر حينها تحدي إيران ووكلائها. أرسل العبادي -بحسب وورث- فريقاً مسلحاً من قوات مكافحة الإرهاب لحراسة 23 كيساً من النقود وللتأكد من عدم تمكن أي شخص من تمريرهم للخاطفين. بعد أن استسلم الفريق القطري في النهاية وشق طريقه إلى بغداد، كانت الأموال قد نقلت إلى قبو في البنك المركزي العراقي. أمضى المبعوثون القطريون معظم يومهم الأول في بغداد يعملون على الهواتف على جبهتين. كان عليهم مراقبة التحويلات المدنية الجارية في سوريا، وكانوا يائسين لاستعادة حقائب النقود، وقاموا بتجنيد كل شخص يعرفونه في العراق للمساعدة، بما في ذلك الميليشيات الشيعية. كما عرضو رشى مجزية، على ضباط وأعضاء مجلس الوزراء والمشرعين العراقيين، سواء مبالغ طائلة من المال أو الشقق الفاخرة في الدوحة ودبي، إلا أن كل محاولاتهم هذه لم تنجح في استرجاع الأموال. في صباح يوم 21 نيسان/أبريل نُقل الرهائن القطريون إلى بغداد وحضروا حفل وداع في وزارة الاستخبارات قبل توجههم إلى المطار. إلا أنه وبحسب وورث فلا يزال هناك لغز واضح في حالة القطريين المختطفين. كيف تم الإفراج عن الرهائن بدون 360 مليون دولار؟ أحد المسؤولين العراقيين البارزين أخبر وورث أن القطريين وافقوا على تقديم إيصال نقدي آخر، عبر بيروت، بنفس المبلغ تقريباً. مسؤول أخر، أخبر وورث أن سليماني تدخل شخصياً لإطلاق سراح الرهائن. وفيما يتعلق بالموقع، فإنه من المنطقي أن تكون بيروت، فحزب الله يحافظ على سيطرة حازمة على مطار بيروت، ولن تواجه أي مشكلة في ضمان مرور الأموال. ويتابع وورث.. إذا كان هذا صحيحا، فسيكون إجمالي المبلغ الذي دفعته قطر للرهائن 770 مليون دولار على الأقل، وربما أكثر من ذلك بكثير. تقارير أخرى تحدثت عن عدة دفعات بملايين الدولارات إلى وسطاء مختلفين لم يتمكن الصحفي من تأكيدها. وهناك أيضاً مبلغ مليوني دولار دفعه أحد أفراد عائلة آل ثاني إلى بائع الأحذية اليوناني، ورشاوى من المبعوثين القطريين الذين يفترض أنهم دفعوا للعراقيين خلال الأسبوع الذي قضوه في بغداد. الأمر الذي يجعل من السهل تخيل مجموع ما دفعته قطر يقترب من مبلغ مليار دولار.
مشاركة :