الشارقة- “الذاكرة والخوف” المأخوذة عن نص لوليم شكسبير، و”ليلة العمر” للكاتب جاسم الخراز و”فقط” للكاتب عبدالله مسعود، ثلاثة عروض إماراتية عرضت ضمن فعاليات أيام الشارقة المسرحية التي تنتهي فعالياتها الجمعة، وهي عروض تميزت بجرأتها في طرح قضايا مجتمعية وإنسانية تلقي بظلال كثيفة على حالة المواطن العربي في الحاضر الآني، وما يدور حوله من صراعات ونزاعات وحروب وتطرف وإرهاب تؤثر تأثيرا مباشرا على وضعه النفسي والإنساني. وفي “الذاكرة والخوف” يجد المشاهد نفسه أمام وطن يستهان به من حاكمه فيورّثه إلى بنتيه فيما ترفض الثالثة مؤكدة أن الوطن لا يقبل التقسيم، أما “ليلة العمر” فتحذّر من استمرارية الاعتماد على التقاليد والعادات التي تنتقص من حق المرأة وتضعها دائما موضع اتهام وتحاسبها على الخطأ العابر ولا تقبل السماح والمغفرة، فيما يدخل “فقط” بالمواطن داخل المتاهة، متاهة الصراعات كاشفا عن تقصير تركه فريسة لهذا الفريق أو ذاك لينتهي به الحال فريسة للظلاميين. محاكمات لا تنتهي ضمن أيام الشارقة المسرحية، التي تتواصل فعاليات دورتها الثامنة والعشرين حتى الثالث والعشرين من مارس الجاري، قدّم ثلاثة مخرجين إماراتيين ثلاث مسرحيات تميزت بجرأتها في طرح قضايا الآن والراهن وما تعيشه المجتمعات العربية من صراعات وإرهاب وتطرف “الذاكرة والخوف” لمسرح كلباء للمسرحيات القصيرة، من إعداد الراحل قاسم محمد وإخراج سعيد الهرش، وقد جاء تراجيديا بسيطا في إخراجه معتمدا على أداء الممثلين والإيقاع الموسيقي وحركة الإضاءة والصوت، وفتح العرض على موسيقى أجراس الكنائس، والتي تستمر خلال العرض، حيث يستدعيها موقف ما، بينما يلوح الملك الحاكم جالسا على مقعد مستطيل مكعب لتلتف حوله ستة مكعبات مستطيلات وراء كل واحد منها ممثل، من بينهم مهرّجه بهلول، لتبدأ محاكمته، على ما فرط في حق وطنه وشعبه، وذلك عبر حركة تبديل في المواقع بين الممثلين وتبديل أيضا للرداء من الأسود إلى الأحمر. ومن هناك يكتشف المشاهد أن الشعب مغلوب على أمره معه، فالملك لم يشارك أحدا من شعبه أو يتشاور مع أحد أو يستمع حتى لأقربهم إليه “بهلول”، بل كان يرى فيه رجلا أبله، وكذلك قسّم أو ورث الوطن بين بنتيه والابنة التي رفضت أن تدخل في لعبة التوريث/التقسيم لعنها وتبرّأ منها، لتبدأ ذاكرته تحت الضغط في العودة إلى الوراء: فكرة التقسيم وتملق ابنتيه، وتوزيعه نصيب الثالثة عليهما، وخلال ذلك يأتيه صوت قضاته/شعبه، بعد أن فقد ملكه واستفردت ابنتاه به، أي الملك. وفي كل الأحوال، فإن أهم ما يميز العرض صوت الممثلين الذي جاء متسقا مع مواجهة الملك، وحركتهم أيضا خلف المكعبات، سواء عندما التفوا حوله أو عندما احترقت المكعبات ذاتها قبيل نهاية العرض، لتعلن انتهاء المحاكمة وسقوط الملك. وقدّم العرض الثاني “ليلة العمر” لفرقة مسرح دبي الشعبي للمؤلف جاسم الخراز ومن إخراج حمد الحمادي، ثيمة لن تتوقّف عن التكرار قبل أن تحرز المرأة في المجتمع العربي تقدّما يسمح لها بأن تكون ندا للرجل في حركتها وأن تكون محل ثقة في محيطها العائلي والمجتمعي، فها هو الزوج الذي لجأ إلى اختيار أمه يكتشف ليلة الدخلة أن زوجته هذه كانت قبل خمس سنوات في حفل تدعى إليه الفتيات المتحرّرات بعد أن أغوتها إحدى صديقاتها وشجّعتها على الانفتاح على الآخر. وفي تلك الليلة ساومها زوجها على أن تبيعه شرفها، لكنها رفضت وصفعته صفعة ظنت أنه في اللحظة الراهنة -ليلة العمر- أنه سيذكرها، لكنه كان ناسيا، ثم إنه الآن يحاكمها على ذلك الخطأ، خطأ وجودها في مكان غير مناسب لابنة عائلة محافظة، بينما هي تبدأ بأحلامها، حلم الأسرة التي ستكونها، حلم السعادة والاستقرار والأمان مع رجل. إنها رسالة إنسانية قوية تفتح على المجتمع الخليجي الذي لا تزال بعض بلدانه تغلق الباب على المرأة بالتقاليد والعادات المقيّدة والمكبّلة لحريتها حتى لو كانت هذه الحرية مسؤولة، فإذا تجرّأت وخرجت حاكمها في محكمة السمة والشرف وما شابه. واستطاع العرض أن يوصل الرسالة ببساطة وعمق، الزوج والزوجة والشماعة فقط على خشبة المسرح، والإضاءة تتبادل اللعب على ثلاثتهم، وقد أضفى المخرج لمسة كوميدية ساخرة على عرضه، وتبادلت الرومانسية والتراجيديا الأدوار، الموسيقى والغناء الشجن، أضف إلى ذلك الأداء التمثيلي الرائع للفنانين وصوتهما الرائق المتسق مع حالتهما النفسية المضطربة بفعل الاستعداد للممارسة الحميمية التي لم تحدث طبعا، أو بفعل اكتشاف الزوج أن هذه المرأة زوجته هي من التقاها قبل خمس سنوات في مكان غير مناسب. وجاء العرض مفتوحا، فهو لم يقل لنا هل سيغفر الزوج خطأ زوجته، لكنه اختتم على لفتة تؤكد جمال المرأة الإنساني عندما تحلم وتحب وتأمل في الاستقرار والسلام، فأثناء خروج الزوج في الختام تقع “البشت” من الشماعة على الأرض، فترفع الزوجة وتضعها في مكانها ووضعها السليم. "فقط" تدفع المتلقي للمشاركة في العرض، إذ هو المستهدف دائما والضائع أبدا والمنوط به إحلال السلام والاستقرار حرب على الظلامية يدفع العرض الثالث “فقط”، الذي قدّمته فرقة بني ياس للمؤلف عبدالله مسعود وإخراج فيصل الدرامكي، المتلقي إلى المشاركة وطرح السؤال والبحث عن إجابة، إذ هو المستهدف دائما والضائع أبدا والمنوط به إحلال السلام والاستقرار، رغم أنه مكره في كل ما يأتيه، إذ لا يختار فريقه وما أكثر الفرق المتصارعة عليه. ويفاجأ جمهور العرض بأن هناك من يجلس على مربع فوق خشبة المسرح وفجأة يبدأ العرض. لقد كان بطل العرض “هشام” ينتظر، فقد تعطلت سيارته وخلص شحن هاتفه، فيما أمه هناك تنتظر أيضا مجيئه لها بالدواء، لكن لا دواء، حيث تتناوب الفرق المتصارعة عليه كل منها يريده لنفسه وهو مضطر ومكره ودون مقابل يذكر. وها هو فريق انتخابي يدخل عليه مهدّدا ومتوعّدا إن لم ينضم إلى الفريق الانتخابي للمسؤول الراشي والمرتشي، الذي يهتف له ويهتف بالتغيير والإصلاح وقيم الحرية، وها هي المرأة اللعوب الفاسقة تراوده عن نفسه بحثا عن ماله، فتكتشف أنه ضائع تائه بلا وظيفة ولا مال بعد طرده من عمله، وها هو يدخل عليه فريق كرة القدم “الشياطين” الذي يخاطبه زعيمهم “من لا يأكل يؤكل” ويوافقهم إلى أن يذهبوا، فيصرخ “جبناء، مهزومون تهتفون لبطونكم الخاوية، تبا لكم ولإنسانتيكم الزائفة”. ويدخل عليه أخيرا الظلاميون ويحملونه تحت تهديد الموت رميا بالرصاص أو النجاة على الانتماء إليهم، الانتماء للسمع والطاعة، فيرضخ قائلا لزعيمهم “سأكون عبدا مطيعا”، ويكشف له الزعيم عن العملية القادمة التي تم تجهيز أحدهم للقيام بها، والتي تتمثل في تفجير مدرسة، لأنه لا بد من تطهير العقول الملوّثة بالعلم، ويتم تركه مع قفة متفجرات ومسدّس لحراسة المكان، وبينما “يبول” مخاطبا عضوه الذكري “أريد أن أصل إلى نتيجة” يلقي رجال الشرطة القبض عليه، ليحكي لهم ما جرى فلا يصدقونه وعندما يجدون القفة/القنبلة يقرّرون حسابه “لقد أمسكنا بك أيها الإرهابي”. إنها حالة الضياع والهذيان التي يعيشها المواطن العربي في ظل ضياع الهوية وتردي أحواله الإنسانية وانشغالات السلطة بزيفها وصراعاتها الداخلية والخارجية، إنه المواطن الذي لا ناقة له ولا جمل في كل ما يجري، المواطن الذي يسعى للوصول إلى استقراره الإنساني، إلى أمه المريضة، المواطن الذي يقف في اللامكان واللازمان يسأل أو بالأحرى يتسوّل أحدا يأخذه إلى أمه وبيته. اقرأ أيضا: "تداعيات" عرض إماراتي تجريبي ومشاكس
مشاركة :