هناك الكثير الذي يمكن أن نتعلمه من الاستماع أو القراءة للأستاذ عبد الله بشارة لخبرته العملية، خصوصاً من عمله في نيويورك مندوباً للكويت في الأمم المتحدة لأكثر من عشر سنوات، ثم خبرته أميناً لمجلس التعاون الخليجي وقربه من متخذي القرار. كل ذلك يجعله مرجعاً لطلاب العلوم السياسية والطموحين للتميّز في العمل الدبلوماسي. هذا إضافة إلى ذلك، فإن ما ينشره يعكس اطلاعاً عميقاً على التاريخ. وقد كان مقاله «عن الدولة العروبية ودولة المواطنة»، الذي نشر في القبس بتاريخ 2018/3/19، مميزاً لتحليله التاريخي. فالتاريخ وفق ما ذكر «له مسار خاص متنوع ومتقلّب. ليس فيه ضمان لأحد، ولا يقبل الاستدامة لنظام، ولا حصانة للفلسفات والتوجّهات الفكرية. منذ الحضارة اليونانية مروراً بمختلف تعرجات التاريخ. شهدت التجارب الإنسانية كثيراً من الاجتهادات الفكرية والسياسية والفلسفية، لم يبق منها إلا جانب تستفيد منه التجارب اللاحقة بالحد الذي تراه مناسبا ومنسجما مع أطروحاتها». لذا، فنحن أمام تجارب تاريخية يمكن أن نستفيد منها، فالتاريخ بالنسبة إلى السياسي أو علم الاجتماع، كالمختبر بالنسبة إلى الكيميائي، لكن ليس بنفس الدقة. فاستنتاجاتنا عن التجارب الكيميائية واحدة أينما أجريت، لكن عند قراءة التاريخ هناك مشترك لدارسي التاريخ، لكن قد يكون هناك تمايز أو خلاف في الاستنتاج. ويرجع هذا إلى أن السبب في الخلاف والتمايز يرجع أصلا إلى الاختلاف في شرح أسباب الاحداث التاريخية. لذا، فهناك تمايز بين تفسير الأحداث التاريخية بين الأستاذ عبدالله بشارة وكاتب هذه السطور. ولنأخذ مثلا على ذلك جريمة غزو الكويت من قبل نظام صدام. فعندما نعزو غزو العراق للكويت إلى الفكر القومي، فهذا تجريم لفكر كان يمكن أن يكون مثاليا، لكن الظروف التاريخية حولت بعض قياداته إلى مجرمين. فيا أستاذ عبدالله بشارة، حتى فكر حزب البعث لا يمكن أن نعتبره فكرا إجراميا. لنأخذ مثلا ثلاثة بعثيين أنت تعرفهم. لنأخذ مثلا صلاح عمر العلي وصدام حسين والشهيد فيصل الصانع. الأول كان مندوبا للعراق في الأمم المتحدة، واستقال من منصبه بعد أن تعزّزت سلطة صدام في العراق في أول الثمانينات. كان باستطاعته أن يبقى في وظيفته، وربما يترقى إلى وزير للخارجية، لكن أخلاقه وقيمه الإنسانية منعته من ذلك. فاختار الحياة البسيطة الكريمة.. لم يؤذ أحدا وكسب احترام الجميع وتقديرهم. وكلنا في الكويت على معرفة بالشهيد فيصل الصانع، الذي يقال إنه ساعد صدام في عوزته عندما كان صدام طالباً في القاهرة. كان فيصل الصانع يحمل فكرا قوميا، لكن عندما اجتاحت القوات العراقية الكويت، اختار وطنه الأم، اختار أهله، واستشهد لإيمانه بالقيم الإنسانية ولرفضه أن يكون الفكر القومي فكرا استبداديا. فاختار الشهادة على أن يقبل بالطغيان. أما صدام، فكان «قوميا» كذلك، لكن اعتاد الإجرام منذ طفولته، وارتكب أول جريمة عندما كان عمره 16 سنة. واختار شعار «الغاية تبرر الوسيلة» مسارا في حياته. ولم يكن صدام وحيداً في اختياره لمسار «الغاية تبرر الوسيلة»، فكان حافظ الأسد مثله، وكذلك القذافي. لكن عبدالناصر مع جميع أخطائه، لم يكن مثل صدام، ولا مثل الأسد، ولا القذافي. والموضوعية تتطلب تقييم جمال عبدالناصر من قبل الناصريين و«الإخوان»، فكلاهما لهما رأيان مختلفان. وعلينا أن نستمع لهما. والفكر القومي لا يعني فرض وحدة عربية عاصمتها دمشق او بغداد أو القاهرة أو الرياض. الفكر القومي يعني أن هناك روابط تاريخية ودينية وثقافية وعلينا ايجاد مصالح اقتصادية بين الدول العربية لتحقيق تكامل في الاقتصاد والتعليم والأهداف السياسية. ومرجع الفكر القومي العربي ليس ما كتبه عفلق، أو إلياس فرح أو سعدون حمادي أو منيف الرزاز. إنما الفكر القومي العربي يستلهم من القرآن الكريم والشعر العربي وما كتبه العمالقة في اللغة أمثال أبو الأسود الدؤلي والخليل بن أحمد وسيبويه، وفي التاريخ والفلسفة أمثال الكندي والفارابي وابن رشد، هؤلاء هم المفكرون الذين وضعوا اللبنات الأولى للفكر العربي. كما يتضمن تراثنا ما قدمه شعراء العصرين الأموي والعباسي وإلى القرن الحالي. نستمد رقي فكرنا العربي من شعر المعري والمتنبي وإلى شوقي وآخرين معاصرين. كل ينشر أو يترجم ما هو قيم الى اللغة العربية يساهم في اغناء الفكر القومي العربي. الفكر القومي العربي في حالة تكوين دائم وليس كتابا معي أو إعلانا. حتى ألمانيا تدهورت عندما تناست ارثها الثقافي واعتبرت مفكرا من الدرجة الثالثة اسمه الفرد روزينتال مرجعا فكريا لألمانيا. لم يكن هذا خيار الألمان، إنما كان خيار هتلر. مثلما اختار صدام ميشيل عفلق ليكون مرجعا للفكر القومي العربي. يا أستاذ عبدالله إن إشارتك الى دولة المواطنة التي «فيها حرية ومساواة وسيادة القانون وشفافية وقضاء مستقل ومحاسبة في إطار وحدة وطنية ترفض التفرقة الفئوية وتؤمن بالعدالة وحق الكفاءة في التألق مع الترابط مع المسارات الإنسانية»، إشارة محفزة وجذابة. فنحن معك، فدلنا على طريقها. فهذه هي دولة الأحلام. فالفكر القومي العربي الذي نصبو اليه لم يكن يرى في صدام بطلا. هؤلاء «القوميون» الذين رأوا في صدام بطلا كانوا حمقى ويائسين وحاسدين. فدولة الأحلام لم تنته مع الغزو العراقي ــــ كما ذكرت في مقالك ـــــ بل انتهت دولة الهمجية مع تحرير الكويت. أما دولة الأحلام، فهي الدولة التي تصفها بدولة المواطنة. والتي أرجو ألا تكون قد وصلت إلى قناعة أننا قد حقّقناها في الكويت. فالطريق ما زال طويلا. والفكر القومي العربي ليس عائقاً لتحقيق أحلام أو دولة أحلام. فيحق لنا أن نحلم. أن نحلم بتكامل عربي اقتصادي وتعليمي وعلمي وسياسي، وأن نكون شعوبا منتجة يحترمنا الآخرون ليس لثروتنا، وإنما لما نقدمه إلى الإنسانية. د. حامد الحمود Hamed.alajlan@gmail.comhamedalajlan@
مشاركة :