إذ يحتفل المصريون اليوم الأربعاء "بعيد الأم" فإنهم يحتفلون بثقافة وطن وأصالة المرأة المصرية على مر العصور ودورها المجيد في مسيرة وإنجازات شعب، بينما يحل عيد هذا العام قبيل أيام قليلة من الانتخابات الرئاسية المرتقبة "وأمنا مصر تستعد لمرحلة جديدة من الإنجازات". وقبل أن يحل "عيد الأم" اليوم كانت متاجر عديدة قد تزينت في أرض الكنانة وحرصت على عرض ماتقدمه من منتجات وسلع كهدايا في هذا اليوم، غير أن أي هدية للأم لن تكون سوى مجرد رمز لقصة حب أكبر وأغلى بكثير من كل الهدايا المادية وهي في سموها وجوهر معانيها لاعلاقة لها بمسائل خاضت فيها بعض الصحف والمواقع على شبكة الإنترنت مثل الحديث عن ارتفاع أسعار هدايا عيد الأم بما لايتناسب مع القدرات الشرائية !. وبينما تتردد مصطلحات ومفاهيم ثقافية مثل مفهوم "نوعية الحياة" الذي يتضمن دوما جانبا ذاتيا أو شخصيا رغم أنه يتصل مباشرة بالتنمية الشاملة فإن الأم تنهض بدور حاسم في إنفاذ هذا المفهوم في حياة الأسرة باعتبارها الوحدة الأساسية للمجتمع وهي "موئل الحب والحنان" وصاحبة الفضل الأهم في إحساس أفراد أي أسرة بالسعادة والرضا وتحفيزهم على خوض معترك "الحياة الإيجابية والنشطة". ويقول مفتي الجمهورية الدكتور شوقي علام إن الجذور الإنسانية والشرعية جعلت للأمومة معنى رفيعا وراقيا في الموروث الثقافي والحضاري، مؤكدا على ارتباط الأم بمعنى الحياة ومعاني الرحمة وهي "أولى الناس بالبر وحسن الصحبة". وإذ ترفع مجتمعات متقدمة بالمعنى المادي والاقتصادي في الشمال شعار "الإنسان أولا" لم تعد جهود التنمية تعطي في مجال "نوعية الحياة" أولوية مطلقة للعامل الاقتصادي بقدر ماباتت معنية بالتفاعل بين الأبعاد المختلفة لتحسين نوعية الحياة والارتقاء بها في سياق يشهد تغيرات تقنية واقتصادية واجتماعية وظهرت فيه ديناميات جديدة ترتبط بمجتمع المعرفة . ووسط ذلك كله يبقى دور الأم في أي اسرة ساطعا وبارزا في صنع الحميمية والدفء الإنساني بقدر ماهو دور فاعل وحيوي في تحفيز الأبناء على التقدم في مناحي الحياة المختلفة ودعمهم وجدانيا في مواجهة التحديات التي قد تعترض سبلهم. فالجانب الشخصي أو الذاتي مؤثر في تحديد المتطلبات وبالتالي يتدخل بالضرورة في تحديد طبيعة نوعية الحياة والمكونات التي تدخل في تشكيلها والسبل التي تتيح تلك النوعية المختارة للحياة سواء كانت ثقافية أو اجتماعية وتقنية. ومن هنا تتجلى أهمية دور الأم في هذه العملية لأنها المؤثرة بقوة في تكوين الأبناء وتسهم في صياغة قدرتهم على الاختيار ورؤية كل منهم لنفسه ولاحتياجاته ومتطلباته مع مراعاة التقاليد والتراث الثقافي العام للمجتمع. وفي وقت تتوالى فيه الدعوات المخلصة لاستعادة منظومة القيم الإيجابية والأخلاقية للمجتمع تبقى الأم المصرية "صانعة الحياة الطيبة" وحافظة القيم الأصيلة "لأم الدنيا" وهي التي تعزز التماسك المجتمعي وتتصدى للقيم الدخيلة والأنماط السلبية التي تهدد تجانس وتناغم نسيج الحياة المصرية، كما أنها القوة المؤثرة بلا جدال في صياغة نظرة الأبناء للحياة وبث الأمل في نفوسهم وهم يتطلعون للمستقبل. ومن نافلة القول إن المرأة المصرية كنموذج للصبر والصمود لها دور بالغ الأهمية في بناء "مجتمع السعادة"، فيما يؤكد دستور مصر على أن تكفل الدولة اتخاذ التدابير الكفيلة بضمان تمثيل المرأة تمثيلا مناسبا في المجالس النيابية وهو ماتحقق بالفعل في مجلس النواب الحالي، كما باتت حاضرة بوضوح في ميادين الثقافة والاجتماع والاقتصاد وكل أوجه الحياة العامة. ويأتي عيد الأم هذا العام وقد قدمت المرأة المصرية أمثلة فذة للوطنية والارتباط بتراب مصر وتقديم فلذات الأكباد فداء للوطن وبما يعيد للأذهان دورها الوطني والتحرري في كل المراحل الحاسمة لهذا الوطن بقدر ماتشكل الأم مددا ملهما للإبداع في كل الثقافات . ولن تنسى الذاكرة الثقافية الإنسانية إبداعات مثل رواية "الأم" للأديب الروسي مكسيم جوركي ناهيك عن النموذج المصري الطيب "أمينة" كما تجلى في ثلاثية النوبلي الراحل نجيب محفوظ الذي قال "مامن شخصية كتبت عنها إلا وقد أخذتها من الحياة المعيشة"، مؤكدا على أن "أمينة" كانت تمثل القطاع الأعظم من الأمهات المصريات في الحقبة مابين ثورة 1919 والحرب العالمية الثانية. وليس ثمة شك في أن ثورة الاتصالات أفضت لأعباء واستحقاقات جديدة للأمومة ودور الأم بعد أن ظهرت في خضم هذه الثورة تحديات اجتماعية وإشكاليات نفسية وحدثت تغييرات جذرية في أنماط الثقافات الأصيلة والمتوارثة وطفحت على السطح مشكلات وانحرافات سلوكية تؤثر سلبا على نوعية الحياة في أي مجتمع والتي تتطلب بطبيعتها نظرة شاملة وكلية. ولئن أثيرت تساؤلات حول مدى تأثير الثورة الاتصالية والمعلوماتية على نموذج "أمينة" الذي نحته نجيب محفوظ للأم في رائعة "الثلاثية" ومدى التغير في هذا النموذج للأمومة، كما عبر عنها محفوظ في "بين القصرين" و"قصر الشوق" و"السكرية" فقد رأى "الغائب الحاضر وسيد الرواية المصرية والعربية" نجيب محفوظ أن "أمثال أمينة كثيرون..في جيلها ومابعد جيلها". كما تطرق للتغيير في نموذج الأم المصرية بقوله "وأمينة لم تتغير إلا بتعليم البنت ثم زاد تغيرها أكثر بعد أن شاركت في العمل بعد التعلم"والطريف أن نجيب محفوظ مضى مع خياله ليتساءل "ماذا يحدث أن تمردت أمينة" مثلما فعلت "نورا" بطلة "بيت الدمية" للكاتب المسرحي النرويجي هنريك ابسن أما الدال فهو أن ثلاثية محفوظ تبدأ بأمينة وتنتهي بموتها مع الميلاد الجديد للطفلة الوليدة في عائلة السيد أحمد عبد الجواد أو "أمينة الجديدة في دورة الحياة المصرية" . وإذا كان اسم "أمينة" يتطابق تماما مع صفات الأم المصرية في الحقبة التي تناولها نجيب محفوظ في ثلاثيته فإنه من اللافت أن الرواية المصرية بعد محفوظ لم تبدع بعد نموذجا للأمومة في السياق الراهن يمكن أن يحرز من الشهرة أو الإعجاب أو الجدل مانالته "أمينة سيد الرواية المصرية والعربية" الذي قضى في الثلاثين من أغسطس عام 2006. وقد ينطبق الأمر ذاته على نموذج الأم كما قدمه الكاتب الروسي العظيم مكسيم جوركي الذي قضى في 18 يونيو 1936 حيث لم يعرف الأدب الروسي المعاصر نموذجا جديدا للأم الروسية في زمن الثورة الاتصالية يحظى بشهرة عالمية مثلما حظت رواية الأم التي كان جوركي قد شرع في كتابتها في مستهل الشطر الثاني من العقد الأول للقرن العشرين. ورغم اختلافات بينة في تفاصيل السياقات الثقافية - الحضارية، فإن العين الناقدة الفاحصة قد تجد بعض أوجه التشابه في الجوهر الطيب للأم المثالية والمناضلة من أجل الحياة الكريمة، كما قدمها مكسيم جوركي في نموذج "بيلاجي" في روايته التي اكتملت وباتت معروفة بين القراء منذ عام 1922، ونموذج "أمينة" في ثلاثية نجيب محفوظ التي اكتملت عام 1957 واعتبرها نقاد أفضل عمل روائي في تاريخ الأدب العربي. فالأم كما قدمها نجيب محفوظ ومكسيم جوركي تتحمل وتكابد الكثير من ألوان العنت والمشقة والتعسف من جانب الزوج وتضحي دوما من أجل الأبناء وهي تقدم اليوم الشهداء من الأبناء دفاعا عن الوطن في مواجهة الإرهاب الظلامي التكفيري . ومن حسن الطالع أن يتزامن عيد الأم في مصر هذا العام مع إطلالة الانتخابات الرئاسية والاستعداد لمرحلة جديدة من الإنجازات وقد تجلى الحضور الكبير للمرأة المصرية وسط الإقبال الكثيف والمبهر للمصريين في الخارج على صناديق الانتخابات حتى تحول المشهد بحق إلى "أنشودة وطنية بحجم العالم في حب أمنا مصر". كان المجلس القومي للمرأة قد أطلق مبادرة بعنوان دال "صوتك لمصر" فيما تشهد ربوع الوطن مؤتمرات وتجمعات نسائية حاشدة في سياق الاستعداد للانتخابات الرئاسية المرتقبة وسط إجماع وطني على أن "صوت المرأة المصرية لن يكون إلا لمصر ومستقبلها الأفضل وهي صاحبة الحضور التاريخي في ثورة 30 يونيو 2013 من أجل أمنا مصر وحماية هويتها وثقافتها". وفي تصريحات صحفية، قالت الكاتبة والأديبة سكينة فؤاد إن المشاركة بكثافة في الانتخابات الرئاسية الوشيكة تعني حماية ظهر المقاتلين في سيناء وتحمل رسائل كثيرة من بينها إدراك حجم المخاطر والتحديات وأهمية دعم الدولة الوطنية وإحباط مخططات العنف والإرهاب ومايسمى بالفوضى الخلاقة. وفيما يوافق الاحتفال بعيد الأم في مصر يوم 21 مارس فإن يوم المرأة المصرية يوافق 16 من مارس حيث خرجت أكثر من 500 سيدة وفتاة في هذا اليوم من عام 1919 في مظاهرة شكلت علامة فارقة في تاريخ المصريين. وسواء في عيد الأم أو يوم المرأة المصرية تتبدى صور نبيلة لنضال المرأة من أجل الحياة الكريمة وكذلك ماحققته من إنجازات في مسيرتها النضالية الطويلة، فيما يؤكد الحضور الواثق للمرأة المصرية في الحياة العامة ومشاركتها الفاعلة في كل أوجه الحياة اليومية على عدم صواب "الصورة الاستشراقية القديمة التي يتمسك بها البعض في الغرب للمرأة في مصر والعالم العربي عموما باعتبارها ذلك الكائن المهمش والمستضعف". ويحق القول بأن التساؤل عن معاناة المبدعة من احتكار الرجال لم يعد صالحا للواقع الإبداعي الحالي بعد أن تمكنت المبدعة المصرية والعربية عموما من فرض نفسها على الساحة، فيما يقول مثقف مصري ومعني بحقوق الإنسان وهو عبد الغفار شكر إن حال المرأة المصرية لايختلف عن النساء في كثير من البلدان التي شهدت نضالا قويا خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، معتبرا أنه يمكن التأريخ لهذا النضال عندما عاد الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي من بعثته في فرنسا ليصدر كتابا بعنوان "المرشد الأمين للبنات والبنين". وفي هذا الكتاب انحاز رفاعة الطهطاوي بشدة إلى تمكين المرأة من التعليم الذي يفتح لها الأبواب للتقدم واكتساب مهارات لم تكن متاحة لها في ذاك الوقت، فيما أسست أول مدرسة نظامية لتعليم البنات وهي "المدرسة السنية" التي فتحت الباب أمام إنشاء العديد من مدارس البنات. والآن فإن نسبة الفتيات تقارب نصف عدد طلاب الجامعات والمعاهد العليا وهو ماتحقق أيضا في مجال التعليم قبل الجامعي ويؤكد الدستوري على أن الدولة تكفل تحقيق المساواة بين المرأة والرجل في جميع الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وكان المجلس القومي للمرأة قد شرع بالتعاون مع الرقابة الإدارية ووزارة الأوقاف في منح "وثيقة آمان" مجانا للمرأة المعيلة والفقيرة من خلال فروعه بالمحافظات، فيما أوضحت رئيسة المجلس الدكتورة مايا مرسي أنه سيتم منح هذه الوثيقة التي تهدف لتوفير الحماية التأمينية وضمان الاستقرار الأسري لخمسين ألف سيدة بجميع محافظات مصر. وبرؤية ثقافية شاملة بعيدا عن "الخطابات النسوية التقليدية والتي تفصل بحدة مابين قضايا النساء والرجال" تربط مايا مرسي بين قضايا التنمية وحصول المرأة على حقوقها ومواجهة العنف والتطرف، مؤكدة على أن تغيير أوضاع المواطنين للأفضل سواء كانوا من الذكور أو الإناث مرتبط بجهود التنمية التي يشارك فيها الجميع سواء كانوا من الرجال أو النساء. وتنوه الكاتبة والأديبة سكينة فؤاد بأن "الأجيال العظيمة من الصابرات والبناءات والعاملات من حفيدات المناضلات عبر حلقات التاريخ لن يرفعن رايات الاستسلام لأنهن يعرفن كم تحتاج إليهن بلدهن وأنهن يتقدمن أرصدة الأمان والتأمين والقوة لها في مواجهة الأخطار والإرهاب والمؤامرات". ولعل علاقة "الأمومة" بين شعب ما ووطنه تتجلى في أروع صورها وأكثرها نبلا في علاقة المصريين بوطنهم حتى أنهم يعتبرونه في موروثهم الثقافي والحضاري "أم الدنيا".. فتحية حب وإجلال "لأم الدنيا" وتحية لكل أم مصرية في عيدها، فيما لن يزيد الغياب كل أم رحلت عن الحياة الدنيا إلا المزيد من الحضور الحبيب وفيض النور.
مشاركة :