أشد ما يمر به الإنسان عند الموت السكرات، فهي لحظات صعبة ثقيلة، فسكرات النزع كما قيل: «أشد من ضرب بالسيف، ونشر بالمناشير، وقرض بالمقاريض»، وأي قول في وصفها لا يستطيع أن يعطيها حقها، ولو علم الأحياء حقيقتها ما تنعموا ولا سعدوا ولا فرحوا بهذه الدنيا ولو للحظة، وقال شداد بن أوس: «الموت أفظع هول في الدنيا والآخرة على المؤمن، وهو أشد من نشر بالمناشير وقرض بالمقاريض، وغلي في القدور، ولو أن الميت نشر (بعث من قبره)، فأخبر أهل الدنيا بألم الموت، ما انتفعوا بعيش ولا تلذَّذوا بنوم». ولما حضرت عمرو بن العاص - رضي الله عنه - الوفاة قال له ابنه عبد الله: «يا أبتاه، إنك قد كنت تقول لنا: ليتني كنت ألقى رجلا عاقلا عند نزول الموت، حتى يصف لي ما يجد، وأنت ذلك الرجل، فصف لي الموت، فقال: «والله يا بني لكأن جنبي في تخت (التخت: وعاء تصان فيه الثياب)، وكأني أتنفَّس من سم إبرة، وكأن غصن الشوك يجر به من قدمي إلى هامتي».ويذكر الدكتور سيد بن حسين العفاني في كتابه «أحوال الطيبين الصالحين عند الموت»، عن عوانة بن الحكم، قال: قال عمرو بن العاص، «عجبا لمن نزل به الموت، وعقله معه كيف لا يصفه؟ فلما نزل به الموت، ذكره ابنه بقوله»، وقال: صفه. قال: «يا بني! الموت أجل من أن يوصف، ولكني سأصف لك، أجدني كأن جبال رضوي على عنقي، وكأن في جوفي الشوك، وأجدني كأن نفسي يخرج من إبرة». وفي رواية: «والله ليتني كنت حيضا أعركتني الإماء بدريب الإذخر». خصال ثلاث وعن أبي نوفل بن أبي عقرب قال: جزع عمرو بن العاص عند الموت جزعاً شديداً، فقال ابنه عبد الله: ما هذا الجزع، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدنيك ويستعملك؟! قال: «أي بني! قد كان ذلك، وسأخبرك، إي والله ما أدري أحباً كان أم تألفا، ولكن أشهد علي رجلين أنه فارق الدنيا وهو يحبهما ابن سمية، وابن أم عبد» فلما جد به، وضع يده موضع الأغلال من ذقنه، وقال: «اللهم أمرتنا فتركنا، ونهيتنا فركبنا، ولا يسعنا إلا مغفرتك»، فكانت تلك هجيراه (الهجيري: كثرة الكلام، وما يولع المرء بذكره) حتى مات. وفي رواية عن أبي نوفل قال: لما جد بعمرو بن العاص، وضع يده موضع الغلال من رقبته، فقال: «اللهم أمرتنا فتركنا، ونهيتنا فركبنا، ولا يسعنا إلا مغفرتك. فكانت تلك هجيراه حتى مات».ويقول الحافظ أبو سليمان محمد بن عبد الله في كتاب «وصايا العلماء عند حضور الموت»: إن عمرو بن العاص حين حضرته الوفاة ذرفت عيناه فبكى. فقال له ابنه عبد الله: يا أبت، ما كنت أخشى أن ينزل بك أمر من أمر الله عز وجل إلا صبرت عليه فقال: «يا بني: إنه نزل بأبيك خصال ثلاث: أما أولهن: فانقطاع عمله، وأما الثانية: فهول المطلع، وأما الثالثة: ففراق الأحبة، وهي أيسرهن». ثم قال: «اللهم إنك أمرت فتوانيت، ونهيت فعصيت، اللهم ومن شيمتك العفو والتجاوز». إجلاله لرسول الله وعن يزيد بن أبي حبيب عن ابن شماسة قال: حضرنا عمرو بن العاص وهو في سياقة الموت فحول وجهه إلى الحائط وجعل يبكي طويلا، فقال له ابنه: يا ابه، أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا؟! فأقبل بوجهه علينا فقال: إن أفضل ما نعد شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. وقد كنت على أطباق ثلاث، قد كنت وما أحد أبغض إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أحب إلي من أن أستمكن منه فأقتله، فلو مت على تلك الحال كنت من أهل النار، فلما جعل الله عز وجل الإسلام في قلبي، أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا محمد ابسط يمينك أبايعك قال: فبسط يده فقبضت يدي، فقال: ما لك يا عمرو؟ فقلت: أريد أن أشترط، فقال: «اشترط ماذا؟» قلت: يغفر لي ما كان. قال: «أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله»، قال: فبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما كان أحد أحب إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أجل في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالا له، ولو شئت أن أصفه ما أطقت لأني لم أكن أنظر إليه إجلالا له، فلو مت على ذلك لرجوت أن أكون من أهل الجنة، ثم ولينا بعد أشياء لا أدري ما حالي فيها، فإذا أنا مت فلا تتبعوني نائحة ولا نارا، فإذا دفنتموني فشنوا علي التراب شنا ثم أقيموا عند قبري قدر ما تنحر جزور ويقسم لحمها، كي أستأنس بكم، حتى أنظر ما أراجع به رسل ربي. «اردعوها عني» ويذكر أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا في كتاب «المحتضرون»، أن عمرو بن العاص كان على مصر، فاشتكى وثقل، فقال لصاحب شرطته: أدخل علي ناسا من وجوه أصحابك أمرهم بأمر. فلما دخلوا عليه، نظر إليهم ثم قال: «إنها قد بلغت هذه، اردعوها عني! قالوا: ومثلك أيها الأمير يقول هذا؟ هذا أمر الله لا مرد له. قال: إي والله قد عرفت أنه كذا، ولكني أحببت أن تتعظوا. لا إله إلا الله. فلم يزل يقولها حتى مات».
مشاركة :