«إن هناك يا عزيزي واطسون ريحاً شرقية آتية». - «أنا لا أرى هذا يا صديقي هولمز... فالجو دافئ جداً». - «آه أيها العجوز الطيب واطسون... يخيّل إلي أنك الشيء الوحيد الجامد الثابت في عالم يتغير... أنا أصر على أن ثمة ريحاً شرقية آتية. ستكون ريحاً لم يسبق لمثلها أن عصف فوق بلادنا... ريحاً باردة مريرة سيكون من نصيب عدد كبير من بيننا أن يختفي قبل أن تهدأ. لكنها في الأحوال كافة ستكون ريحاً إلهية نظيفة رائعة سوف نستلقي بعد عصفها تحت أشعة الشمس هادئين»... > كثر يعتبرون هذا الحوار القصير بين التحري البريطاني الأشهر شرلوك هولمز وصديقه، و «كاتب سيرته»، الدكتور واطسون، واحداً من أشهر الحوارات بينهما. ومع هذا ليس ثمة أية علاقة لهذا الحوار بأي من الروايات وقصص التحري التي سجلها الكاتب آرثر كونان دويل، «نقلاً عن واطسون»، لتروي عشرات المغامرات البوليسية والاستنباطية، التي عاشها هولمز مع صديقه واطسون وتمكن خلالها من كشف مئات المجرمين ومئات الجرائم. إذ، حتى وإن كان حل العقد البوليسية من طريق الاستنباط المنطقي، هو تخصص هولمز الأساسي، فإنه قد حدث لآرثر كونون دويل، أن كتب بين الحين والآخر، نصوصاً غير بوليسية. وتحديداً: بعض القصص والحكايات التجسسية. وهو في الحقيقة أمر يجهله كثر، مع أنه يجعل من دويل، عند بدايات القرن العشرين، واحداً من رواد أدب التجسس، حتى وإن كانت براعته في هذا النوع تقل كثيراً عن براعته في الأدب البوليسي. أما المقطع الحواري الذي أوردناه أول هذا الكلام فهو مقتطع من واحدة من أشهر قصص التجسس التي كتبها آرثر كونان دويل، وعنوانها «سهمه الأخير». ومع هذا يمكن بكل بساطة إدراك أن هذه القصة تنتمي إلى الدعاية الوطنية، أكثر مما تنتمي إلى الأدب التجسسي الحقيقي. أما «الجاسوس» في هذه القصة فهو شرلوك هولمز نفسه. أو لنقل إنه كان، بالأحرى، أشبه بعميل مزدوج. لكن هذا لم يكن إلا في ظاهر الأمور، إذ لاحقاً، عند نهاية القصة سوف نكتشف أنه كان يزعم العمل لحساب الألمان، خلال الحرب العالمية الأولى، لكنه كان يعمل في الحقيقة لمصلحة الاستخبارات العسكرية البريطانية. > كتب دويل هذه القصة عام 1917، جاعلاً أحداثها تقع قبل ذلك بثلاثة أعوام، أي عام 1914 الذي اندلعت فيه الحرب العالمية الأولى، التي كانت في الأساس مجابهة بين ألمانيا (ودول المحور) من ناحية، وبريطانيا (وحلفائها) من ناحية ثانية. ولما كان معروفاً عن دويل وطنيته، منذ حرب البوير في جنوب أفريقيا، كان يشعر أن عليه أن يساهم في المجهود الحربي بقلمه، طالما أنه لا يستطيع تقديم شيء آخر لوطنه. وهكذا ركّب هذه الحكاية، التي تبدأ بمشهد نرى فيه العميل الألماني فون بورك، وهو على وشك مغادرة لندن عائداً إلى بلده، خوفاً من افتضاح أمره أو طرده لأنه من رعايا دولة عدوة. أما الأمر الذي يخشى فون بورك افتضاحه في الحقيقة، فهو نشاطه كجاسوس مهمته، ومنذ سنوات، أن يجمع أكبر قدر ممكن من الوثائق العسكرية البريطانية السرية لإرسالها إلى برلين. أما القسم الأكبر من هذه الوثائق كما يخبر في المشهد الأول صديقه وزميله، الألماني هو الآخر، فون هيرلنغ، فمصدره عميل إرلندي يعمل في خدمته يطلق على نفسه اسماً مشفراً هو آلتامونت. ويخبر فون بورك صديقه بأن آلتامونت هذا آت بعد قليل كي يسلمه وثائق أخيرة ويودعه. وحين يبارح الصديق المكان، يبقى فون بورك وحده (إذ كانت عائلته قد سافرت إلى برلين قبل فترة تاركة إياه مع الخادمة العجوز). أما الخادمة فتذهب للنوم بعد أن تطفئ ضوءاً معيناً في البيت. وعلى إثر هذا نسمع صوت سيارة آتية. تقف وينزل منها العميل آلتامونت، الذي حين يدخل نكتشف أنه، ليس في حقيقة أمره سوى شرلوك هولمز، الذي يحمل لفافة فيها «وثائق» هامة كما يقول. > وإذ يدور حديث ذو معان عدة بين آلتامونت وفون بورك، ينتهي الأمر «بالعميل الإرلندي»، إلى الإصرار على قبض المال، قبل تسليم اللفافة. فيصر فون بورك على أن عليه أن يتأكد من قيمة الوثائق التي فيها قبل الدفع، وقبل أن يضمها إلى عدد مدهش من وثائق سرية أخرى، كان جمعها طوال سنوات وها هو يستعد لأخذها إلى برلين، مع ما أتاه به آلتامونت من جديد. في نهاية الأمر يعطي آلتامونت اللفافة لفون بورك، الذي حين يفتحها يكتشف أن ما في داخلها كتاباً عن... تربية النحل. لكنه، قبل أن يفيق من صدمته، يكون آلتامونت قد أعد منديلاً مليئاً بمادة مخدرة، وضعه على فم العميل الألماني. > وهنا نكون قد فهمنا كل شيء: أن هولمز يعمل جاسوساً لحساب وطنه. وهو كان حضّر لذلك منذ سنوات بزيارات عدة قام بها إلى الولايات المتحدة، ثم إرلندا، كي يتقن تمثيل دور الإرلندي الثائر على الحكومة البريطانية والمستعد للتعاون مع الشيطان (حتى ولو كان ألمانيا) ضدها. وكان هذا ما أقنع فون بورك بأنه صادق في ولائه للألمان، وجعله يجمع طوال سنوات أوراقاً مضلله، كانت الاستخبارات الإنكليزية تعدها لإيصالها إلى فون بورك، من طريق هولمز الذي اكتسب ثقة هذا الأخير. وهنا تنتهي القصة بتعاون هولمز وواطسون (الذي لعب دور سائقه، فيما كانت الخادمة العجوز نفسها جزءاً من المؤامرة، فكان إطفاؤها الضوء إشارة لهولمز بأن الطريق سالكة!) على إيصال فون بورك غائباً عن الوعي إلى الاستخبارات الإنكليزية! > طبعاً لم تكن هذه القصة عملاً كبيراً. لكنها شكلت مساهمة وطنية من آرثر كونان دويل، وبالتالي من هولمز وواطسون، اللذين ينم حوارهما الأخير عن وطنية لا غبار عليها. ولكن كذلك عن فهم سياسي رهيف، من خلال حديث هولمز عن ريح الشرق الآتية (قاصداً كما يبدو روسيا التي كان يمكن القول حينها أنها تعيش نوعاً من الصعود المباغت، حتى قبل ثورتها البولشفية التي جعلتها إحدى أكبر القوى العظمى في العالم ذات يوم...). > نشر دويل هذه القصة ضمن إطار ستة وخمسين قصة قصيرة قام شرلوك هولمز بـ «بطولتها»، وكان عنوانها الكامل حين ظهرت في «مجلة ستراند»، «سهمه الأخير: خدمة شرلوك هولمز العسكرية». واللافت في هذه القصة أنها تُروى بضمير الغائب على عكس ضمير المتكلم (واطسون) الذي اعتادت قصص هولمز الباقية- بما في ذلك الروايات الطويلة الأربع-، أن تُروى به. كما أنها، وعلى عكس القصص الباقية التي جميعها حكايات عن تحريات هولمز ومعاونة واطسون له، قصة جاسوسية. ومن الجدير بالذكر هنا، أن آرثر كونان دويل نفسه قد تحدث كثيراً عن هذه القصة، ليس بصفتها واحداً من نصوصه الكبرى أو المفضلة، ولكن بصفتها تعبيراً عن وطنيته وبالتالي وطنية الثنائي هولمز/ واطسون. > وعلى رغم أن هذه الحكاية كان يمكن أن تمر مرور الكرام وتُنسى، وبخاصة مقارنة بالزخم الذي كانت تحمله تلك الحكايات الهولمزية الأخرى العابقة بالتشويق والذكاء والمعرفة، فإنها عاشت ولا تزال تعيش حتى اليوم حيث تقتبس أولاً للإذاعة ثم للتلفزة، وربما تقتبس يوماً للسينما... من يدري؟. صحيح أن هذه حكايات هولمز القائمة على التحريات كانت هي ما صنع سمعة آرثر كونان دويل ومكانته في تاريخ الأدب التشويقي ليكون، إلى جانب آغاثا كريستي وبعض كتاب النوع الكبار، مساهمين أساسيين في رفع هذا الأدب من مصاف الآداب الشعبية التجارية إلى مصاف الفنون الكبيرة، غير أن دويل نفسه، وعدا عن هذه الحكايات كان يكتب أيضاً في التاريخ والروحانيات، بل كتب ذات مرة رواية قصيرة تتحدث عن غرق آخر أساطيل مملكة قرطاجة الفينيقية حين اشتبك مع أساطيل روما وجيوشها، ناهيك بكتابات سياسية له ربما يمكن احتساب «سهمه الأخير...»، في عدادها. > وُلد آرثر كونان دويل عام 1859 في إدمبورغ ليرحل عام 1930 في سلسكس، وكان كاتباً إلى جانب كونه طبيباً ما يجعل من رسمه لشخصة الدكتور واطسون رفيق شرلوك هولمز، أشبه بصورة ذاتية له. ودويل درس الطب في الجامعة لكنه في الوقت نفسه انصرف إلى الكتابة باكراً ناهيك بكونه خاض العمل السياسي وغالباً مناصراً للقضايا العادلة إنما من دون إفراط، إلى جانب انخراطه في الجندية خلال مرحلة مبكرة من حياته. وهو إلى هذا جرب أن يكون «وسيطاً روحياً» وكتب الشعر والروايات التاريخية وأبدع في مجالات القصص الغرائبية. غير أن شهرته الأبقى كانت بفضل الروايات والقصص التي جعل بطولتها لشرلوك هولمز.
مشاركة :