ضمن سلسلة “عالم المعرفة” الكويتية، صدر مطلع شهر مارس 2018 كتاب حمل عنوان”ألمانيا والشرق الأوسط-من زيارة القيصر فيلهلم الثاني إلى المشرق في عام 1898 حتى الوقت الحاضر”. ويقدم هذا الكتاب، الذي ألفه رولف شتاينغر ونقله إلى اللغة العربية الدكتور لورنس الحناوي، معلومات هامة ودقيقة ومدهشة عن علاقات ألمانيا بالعالم العربي، وعن موقفها من الصراعات والنزاعات ومن مجل الأحداث التي عرفتها منطقة الشرق الأوسط منذ نهاية القرن التاسع عشر، وحتى مرحلة المستشارة الحديدية أنجيلا مركل. علاقات متقلبة الواضح أن المؤلف رولف شتاينغر حرص على أن يكون كتابه وثيقة مهمة ومرجعا أساسيا لكل ما يتصل بالعلاقات الألمانية -العربية. لذلك اعتمد مصادر مختلفة ومتنوعة، وتوخى الدقة في جل المعلومات التي طرحها. وقد فعل ذلك بأسلوب رفيع يكاد يكون أسلوبا روائيا، لتكون قراءة الكتاب ممتعة، ومثيرة. لكنه لم يشر في البداية إلى أن علاقات ألمانيا بالعالم العربي كانت ثقافية. فقد هاجر الشعراء الرومنطيقيون الألمان إلى الشرق روحيا وخياليا في القرن الثامن عشر باعتباره فضاء للأحلام البديعة، وواحة للسلام والحب. وتحت تأثير قراءاته لشعراء الشرق، واهتمامه بالإسلام، كتب شاعر ألمانيا الأعظم غوته “الديوان الشرقي لمؤلفه الغربي”. الكتاب الذين انتموا إلى "جماعة 47" ناصروا الحرية، وانتقدوا عبر مؤلفاتهم ومواقفهم الفترة النازية، والجرائم التي ارتكبت خلالها تطرق شتاينغر إلى أنّ القيصر فيلهلم الثاني هو أول سياسي ألماني سعى إلى ربط علاقات وثيقة مع العرب، موليا اهتماما كبيرا لمنطقة الشرق الأوسط تحديدا. إلاّ أنه اهتم بموضوع توطين اليهود في فلسطين. بعد سقوط حكومة فايمار في عام 1928، ومع صعود النازيين إلى السلطة، شرعت ألمانيا في التخطيط لفرض نفوذها من جديد في منطقة الشرق الأوسط. وبسبب العداء الذي أظهره هتلر لليهود، ظن العرب أنهم كسبوا حليفا جديدا قد يساعدهم على مواجة النفوذ البريطاني، ويضع حدا للمشروع الصهيوني القاضي بإقامة دولة يهودية في فلسطين. لهذا السبب، سارع المفتي العام للقدس الحاج الأمين الحسيني إلى القيام بزيارة إلى برلين عارضا خدماته للنضال ضد اليهود. ويشير شتاينغر إلى أن سعي النازيين لكسب ثقة العرب، لم يمنعهم من تشجيع هجرة اليهود إلى فلسطين. وبعد الحرب العالمية الثانية انقسمت ألمانيا إلى شطرين. وكان الشطر الشرقي خاضعا للهيمنة السوفييتية. أما ألمانيا الاتحادية فقد وجدت نفسها مجبرة على الخضوع لكل التدابير التي اتخذت ضدها. لذلك اعترفت بإنشاء دولة إسرائيل عام 1948. وبعد انهيار جدار برلين، وتوحيد شطري ألمانيا، بدأت برلين تعارض ولو بشكل محتشم السياسة الأميركية في الشرق الأوسط. أدباء جماعة 47 رغم أن شتاينغر سعى إلى الإحاطة بجميع الجوانب المتعلقة بالعلاقات بين ألمانيا والعالم العربي، إلاّ أنه غفل عن الإشارة إلى موقف كبار الكتاب والمثقفين الألمان تجاه القضايا العربية، وتحديدا القضية الفلسطينية. وأقصد هنا بالكتاب والمثقفين الألمان أولئك الذين برزوا بعد الحرب العالميّة الثانية، وأخذوا على عاتقهم إعادة كتابة تاريخ بلادهم المنكوبة بهزيمة نكراء. وسعيا منهم إلى فهم ما حدث، أخذوا يلتقون هنا وهناك لمناقشة القضايا والأوضاع التي كانت تعيشها ألمانيا في ذلك الوقت بهدف وضع الأسس الكفيلة بالنهوض بثقافتهم التي صادرها النازيون لصالحهم فباتت ناطقة باسمهم، مشرّعة لجرائمهم. كتاب يؤرخ للعلاقات الثقافية والسياسية بين ألمانيا والعرب كما أنهم شرعوا في إعادة النضارة إلى لغة غوته التي سَمّمتها الدعاية النازية، وخطب هتلر وغوبلس الشوفينيّة. وقد أفضت الاجتماعات التي كان يقوم بها هؤلاء المثقفون إلى ظهور “جماعة 47”، وهي جمعيّة أدبية كان من أبرز رموزها هاينريش بل، وغونتر غراس، ومارتين فالسر، وهانس ماجنوس انسنسبرغر وآخرون. وجميع الذين انتموا إلى “جماعة 47” ناصروا الديمقراطيّة، وانتقدوا عبر مؤلفاتهم ومواقفهم الفترة النازية، والجرائم التي ارتكبت خلالها ضدّ اليهود بالخصوص. كما أنهم وقفوا مساندين لجل حركات التحرّر والثورات التقدميّة التي عرفها العالم بعد الحرب الكونيّة الثانية. وثمّة منهم من ذهب إلى أبعد من ذلك، وهذا ما فعله هانس ماجنوس انسنسبرغر الذي انطلق إلى كوبا لمساندة ثورة فيدال كاسترو وتشي غيفارا. وعلى مدى عقود مثلت “جماعة 47” ضمير ألمانيا الجديدة الإنساني. إلاّ أنه لا أحد من رموزها تجرأ على الجهر بموقفه الواضح تجاه القضية الفلسطينية، أو انتقاد إسرائيل. وقد تعاطف هاينريش بل الحائز على جائزة نوبل للآداب عام 1970، مع منظمة “بارماينهوف” من خلال روايته الشهيرة “الشرف الضائع لكاترينا بلوم”. وكانت هذه المنظمة اليسارية المتطرفة قد ساندت الأجنحة الراديكالية الفلسطينية. غير أنه أبى حتى النهاية، إبداء موقفه تجاه القضية الفلسطينية. ومنذ صدور رائعته “طبل الصفيح” في أواخر الخمسينات من القرن الماضي، والتي أتاحت له شهرة عالمية واسعة، وفتحت له الطريق واسعا لنيل جائزة نوبل للآداب عام 1999، وحتى وفاته، العام الماضي، لم ينقطع غونتر غراس عن التدخل في الشؤون السياسية سواء داخل بلاده أم خارجها. وفي أكثر من مناسبة، انتقد غراس تركيا بسبب سياستها المعادية للأكراد. بل وطالب حكومة بلاده بقطع علاقتها مع أنقرة. كما أنه انتقد بحدة سياسة جورج بوش الأب، وسياسة جورج بوش الابن. مع ذلك لم يتجرأ على الإفصاح عن رأيه بخصوص القضيّة الفلسطينيّة. وعندما حاول أن ينتقد إسرائيل من خلال قصيدة نثريّة، شنت عليه وسائل الإعلام هجومات عنيفة أسكتته فما باح بعدها بكلام. وفي أواخر التسعينات من القرن الماضي، أدلى الروائي المرموق مارتين فالسر بتصريحات أشعلت جدلا ساخنا ظلّ لهيبه مشتعلا أشهرا طويلة. وفي تلك التصريحات أشار إلى أن “الهولوكست” بات شيئا من الماضي، وأن الأجيال الجديدة لم تعد معنية به. لذلك فإن الكتابة عنه يعدّان عملا عقيما لا يؤدي إلاّ إلى المزيد من تبكيت الضمير. وتعاطف هانس ماجنوس انسنبرغر مع الثورات التقدمية. وخلال انتفاضة ربيع عام 1968 الطلابيّة، كان في طليعة المساندين لها. كما أنه هلّل لوصول الاشتراكيين إلى السلطة بعد رحيل الجنرال فرانكو. أما القضية الفلسطينية فلم تستأثر باهتمامه ولو مرة واحدة. بل إنه عبّر عن مساندته لإسرائيل في أكثر من مناسبة، غاضّا الطرف عن الجرائم التي ارتكبتها، وترتكبها تجاه المدنيين الفلسطينيين. ولعل الماضي النازي هو الذي يجعل جلّ المثقفين الألمان يتجنبون الخوض في أي موضوع أو قضية يمكن أن تحرجهم أمام إسرائيل.
مشاركة :