قصتان.. لا أحد يبالي

  • 3/27/2018
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

أحدّثكم الآن في نهاية الليل، عن الظلام الذي يلد نفسه من دون مبرر، ولحظات تمتلئ بتواشيح الفجر، وصخب الشارع الذي مات فجأة، وعن باعة الجرائد النائمين وإشارات المرور التي لا تضايقها السيارات وعربات الفول التي تستعدّ لإفطار المدينة، وعن السكون الذي لا يقطعه سوى السيارات الهاربة من اللاشيء. أحدثكم عن جلستي أنا وحبيبتي؛ التي طالت من دون أمل؛ على الرصيف. في الطريق تدلّت رؤوس أشجار، جذوعها مدهونة بالأبيض ويحاذيها رصيفٌ خرسانيّ، كأنه قيد يمنعها مِن الفرار، وصناديق حبلى بقمامة الناس، وأعمدة الإنارة - التي تمثّل لي مشانق تنتظر رقاباً لم يأتِ بعدُ أوان قِطافها - تلك التي تلقي بأشعّتها الباهتة على أرضيّة الشارع السوداء، فتزيده قسوة، تفوق قسوة الجوع. والآن، سوف أقوم بوضع ابتسامة حديثة الولادة على وجهي: ذات يوم، امرأة غاب عنها زوجها سحبتني إلى الفراش، كان جسدها أسوأ من الأسلاك الشائكة، فتركتها ووقفت أتابع الليل وهو يهبط وئيداً مِن على سلم السماء، فقالت: احكِ لي قصتك. قلت لها: عمري أربع ضحكات، وخمس هزائم، وثورتان مشكوك في صحّة إحداهما، ومليون سيجارة، وحبّ واحد سأظلّ أفتخر به. * في شوارع القاهرة فهمت معنى الجوع. الطعام أمامك ولا تمتلك ثمنه. تنظر إلى أطباق أصناف الحلوى وتضغط وجهك في زجاج المحل، متعجّباً من كل تلك الأشكال. تضع يدك في جيبك الخاوي فلا تحصل إلا على «نتفة» من خيط بالٍ، تخاف أن تخرجها فتفضحك، تظلّ يدك في جيبك باحثة عن أي شيء، وكأنها تثقب فيه ثقباً تتمنى أن يكون في نهايته كنز. وفي النهاية تُخرج يدك خاوية. الناس يمرون بجوارك غير عابئين بخواء جيبك، ولا بوخَزات جوعك، ولا بوجهك الملتصق بزجاج المحل، ولا بالروائح الشهية التي تغرق المكان. تتراجع، تحاول أن تصرخ بأنك عثرت على معنى الجوع. لكنك تنسى أن الصوت لا يخرج من حنجرة جائعة، فتبدأ عيناك تدمع، تمدّ إصبعك وتمنعها من النزول، ثم تضعه في فمك متذوقاً ملوحة الدموع. * - لا أحد يبالي. هكذا كان يقول أبي. ورغم يقينه هذا، إلا إنه ذات يوم أصبح تجربة عملية لتلك الحقيقة. * كثيرون من الرجال والنساء والأطفال، يتصادمون داخل «مترو الأنفاق» وعند ركوبه أو النزول منه، وكثيراً ما يتشاجرون. ثرثرة، سباب، همس. نظرات اشمئزاز. حواجب ترفع، وعيون تتحدى. أجساد تنفر من أجساد ووجوه تتنمّر. قصص حب تبدأ وتنتهي. نظرات إعجاب ونظرات احتقار. روائح طيبة وأخرى كريهة. هواتف محمولة تنقل الكلام. أيادٍ ممتدّة تقبض على لا شيء. حقائب على الأكتاف. سماعات في الآذان. نظّارات طبية وشمسية على العيون. عقارب ساعات تقتل الوقت من دون رحمة. صفارات تنبّهك للاستعداد للهبوط أو الصعود. البعض يدخل تحت جلدك حتى تنتهي رحلته، والبعض يجاهد كي يظفر بأي شيء من هذا العبث اليومي، والبعض يتحول إلى حجر صامت لا يتحرك مهما حدث أمامه. وذات يوم، يركب رجل «المترو» للذهاب إلى عمله. كان مبكراً ومسرعاً كعادته، حتى يجد مكاناً شاغراً، ودائماً يجده. يجلس، لا يعنيه أي شخص آخر، إلى جواره. لا يتدخل ولا ينظر في عين أحد. فقط ينظر على لافتات المحطات التي يمرّ بها قطار المترو. نادراً ما ينام، يظلّ جالساً يسبّح الله ويدعو بالستر بصوت هامس. وعندما تأتي محطته، ينزل. وذات يوم ركب المترو ومات. هل تظن أحداً لاحظه؟ ظل «المترو» يقطع طريقه المعتاد، من بداية الرحلة في حلوان إلى نهايتها في المرج. عند نهاية اليوم توقف القطار. توقف؛ لأنه يجب أن يتوقف. هذا الرجل كان أبي.

مشاركة :