عرب هذا الزمن لا يعرفون معنى الجدل بحسب المفهوم الفلسفي الإغريقي، لذلك تكثر الخلافات بينهم، وينعدم الحوار الجدي بهدف أن يكون تعدد الأفكار باعثا على التقدم والرقي، وليس على التطاحن والاقتتال، و"التدافع الاجتماعي" بحسب تعبير أحد القادة الأصوليين. وغياب مثل هذا الجدال يجعل الأفراد والمجموعات يتشبثون بالمسلمات واليقينيّات، ويذهبون إلى هذا المنتدى أو ذاك لا لشرح أفكارهم، وتوضيحها، ومقارعتها بالأفكار الأخرى، وإنما لفرضها بقوة السلاح إن لزم الأمر. وهذا ما يفسر الفقر الفكري والفلسفي الذي نعيشه راهنا، والجدل العقيم الذي يخيم بظلاله القاتمة على حياة العرب السياسية والثقافية. نحن نعلم أن العرب قبل انهيارهم الحضاري والفكري اهتموا بالفلسفة اليونانية، وتأثروا بها حتى أنهم كانوا يصفون أرسطو بـ”المعلم الكبير”. تشهد على ذلك مؤلفات ابن رشد، ابن سينا، والفارابي، والمعتزلة. بل إن دلائل كثيرة تثبت أن العرب هم الذين نقلوا الفلسفة اليونانية إلى أوروبا عند نهوضها من ظلمات القرون الوسطى. خلال النصف الأول من القرن العشرين، أظهر البعض من المفكرين العرب أمثال لطفي السيد، وطه حسين، ولويس عوض اهتماما كبيرا بالفلسفة اليونانية باعتبار أن جنوب المتوسط كان من المساهمين في انتشارها وازدهارها من خلال مدرسة الإسكندرية المتمثلة في أفلوطين. إلاّ أن هذا الاهتمام راح يتضاءل ويتضاءل إلى أن كاد ينعدم تماما. ويعود ذلك إلى أن جلّ الجامعات العربية تعزف عن تدريسها. وحتى إن درستها فهي تنتهج طرقا سطحية تعيق الاستفادة منها، والعمل بأساليبها المتمثلة بالخصوص في الجدل المولد للأفكار، والمحرض على القبول بالاختلاف وبالرأي الآخر، وعدم التمسك بالمسلمات. في ألمانيا حين بدأت عظامه تبرد، وأخذ عقله الجبّار يتهاوى شيئا فشيئا تحت وقع المداهمات العنيفة والمتتالية لتلك الكوابيس المرعبة التي قادته إلى عتمة الجنون، تماما مثلما كان الحال مع هولدرلين، قطع نيتشه صلاته بصديقه القديم الموسيقار الشهير فاغنر، وبألمانيا الرماديّة الصّارمة، ليشرع في رحلة استكشافيّة لبلاد الشرق قادته إلى شعراء “التروبادور”، وإلى سمفونيّات “بيزي” المرحة، وإلى شواطئ المتوسط على الساحل الفرنسي، والإيطالي. ولم يكن هدف نيتشه من تلك الرحلات ينحصر فقط في البحث عن الدفء، وعن النور، وإنما كان يرمي إلى الاقتراب أكثر فأكثر من الينابيع الأولى للفلسفة المتجسّدة في فلاسفة الإغريق الكبار أمثال سقراط، وأرسطو، وهيراقليطس، وبارمينيدس، وغيرهم. ومن المؤكد أن هذا العشق للفلسفة اليونانية هو الذي أوحى إلى نيتشه بكتابة آثاره الخالدة مثل “هكذا تحدث زرادشت”، و”ولادة التراجيديا”، و”المعرفة المرحة”. ولم يكن هو الوحيد الذي هام بالفلاسفة اليونانيين، جاعلا من مؤلفاتهم مصدرا أساسيا لفلسفته. وبإمكاننا أن نقول إن جميع الفلاسفة والمفكرين الملهمين للثورات العلمية، والسياسية، والثقافية، والتي عرفتها أوروبا منذ عصر النهضة وحتى هذه الساعة، كانوا من المدمنين على قراءة آثار الفلاسفة والشعراء اليونانيين القدماء. وجميع هؤلاء كانوا يعودون في أوقات الضِيق الكبرى، وفقدان التوازن، إلى مؤلّفات سقراط، وأفلاطون، وأرسطو، وهيراقليطس، بحثا عمّا يساعدهم على تبديد العتمة التي تلفّ عالمهم. وكان هايدغر، أب الفلسفة الوجودية المعاصرة، يعتبر العودة إلى الفلسفة اليونانية ضرورية وأساسية. والشيء الذي يؤكّد لنا ذلك هو أنه -أي هايدغر- افتتح مؤلفه الشهير “الوجود والزمن” بجملة لأفلاطون وكأنه يرغب في أن يبرز بشكل واضح أن مشاكل الكينونة والزمن كانت قد طرحت بصفة شاملة من قبل فلاسفة اليونان القدماء. وأشار الفيلسوف الفرنسي جان بوفري مترجم هايدغر للغة ديكارت إلى أن الإغريق كانوا دون علم منهم “المهندسين الأوائل للوجود”. ويوافق الفرنسيّ الآخر جان ماري روّار جان بوفري الرأي، ويكتب قائلا “الفكر الإغريقي يسكننا، شئنا ذلك أم أبينا. وهذا الفكر هو الذي شكّل طريقتنا في التفكير، وفي التمسّك بمعتقداتنا، وعاداتنا، ومؤسساتنا، وحضارتنا”.
مشاركة :